التراث.. وأسلمة المعرفة 2/1


إن البحث المتمعّن الدقيق في طبيعة الارتباط بين معطيات تراثنا المعرفي بفروعه كافة وبين التصوّر الإسلامي، يعد بحدّ ذاته من الضرورات الملحّة في أنشطتنا الفكرية والمنهجية المعاصرة، كما أنه يعد من الضروري متابعة محاولات الانفصال في هذا التراث، وحجم التأثيرات المضادة ومواردها الأساسية، والتحوّل ـ بالتالي ـ إلى تنفيذ عملية تمحيص وانتقاء شاملة تضع بين يدي المسلم المعاصر جلّ مفردات المعطيات التي قدمها الأجداد في نطاق التصوّر الإسلامي.

فكيف إن كان الأمر متعلقاً بعملية أسلمة المعرفة؟ ألا تحتّم مهمة كهذه متابعة تلك الخطوات الأساسية الثلاث في دائرة التراث المعرفي الإسلامي وتنفيذها، من أجل رفد العملية واغنائها بالعناصر والقيم الصالحة في بنية هذا التراث؟

صحيح أن جهداً كهذا، في سياقاته الثلاثة، يقتضي حشداً كبيراً من الطاقات المتخصصة القادرة على أداء المهمة بأكبر قدر من الدقة والالتزام والإلمام.. ومع الحشد الكبير فترة زمنية قد تستغرق الأعوام، وربما العقود الطوال. إلاّ أن ضرورة محاولة كهذه تستحق العناء، إذ لا يمكن لبرنامج الأسلمة أن يبدأ من نقطة الصغر مخلفاً وراءه معطيات وخبرات وتجارب الأجداد الغنية بمفرداتها في مجالات المعرفة كافة، تلك المفردات التي بلغ بعضها حداً من التألقّ والفاعلية بحيث أنه عدّ، في نظر الغربيين أنفسهم، جزءاً أصيلاً في النسيج الثقافي والعلمي للحضارة المعاصرة.

فإذا تذكرنا ـ كذلك ـ أن دائرة العلوم الإنسانية في هذا التراث قد تتفوق في جوانب منها وبكل المقاييس، حتى على نظيراتها لدى الأمم الأخرى وفي نطاق الحضارة المعاصرة كذلك.. في ريادتها، في قدرتها على الكشف، وفي انسجامها بنسبة أعلى مع هموم الإنسان ومطالبه وطبيعة تكوينه، أدركنا أن الأمر ليس فيه مجال للخيار، وأن هذا الكم الكبير من المعطيات التراثية يمثل خسارة ليس للمسلمين فحسب، بل للمعرفة البشرية كافة.

ومنذ البدء، وكمؤشر عام، فإن علينا ألاّ نقع في مظنة التسليم بأحد التعميمين التاليين:

أ ـ أن التراث الإسلامي يعبّر بكليّته عن التصوّر الإسلامي للكون والحياة والإنسان.

ب ـ أن التراث الإسلامي لا يمثل بالضرورة انعكاساً لهذا التصوّر.

فهذا التراث إنما هو نسيج متداخل الخيوط بين ما هو أصيل وما هو طاريء دخيل.. بين معطيات تشكلت من مقولات القرآن والسنّة وتخلّقت في إطاراتهما، وبين أنشطة أقحمت إقحاماً في مجرى الفعل الحضاري الإسلامي، بتأثير الدهشة والإعجاب بهذا الجانب أو ذاك من معطيات الغير، أو عن قصدية مسبقة لعناصر غير إسلامية، بالمفهوم غير المحدد للكلمـة، لزرع أجسام غريبة في نسيج هذه الحضارة ومحاولة غزوها والتلبيس عليها من الداخل.

وفي كل الأحوال فإن الباحث يجد نفسه قبالة صعوبة بالغة وهو يتعامل مع التراث قبل أن يتبين بوضوح ما هو إسلامي أصيل منها وما هو يوناني أو فارسي أو هندي أو يهودي أو مسيحي دخيل. بل أن المعطى الواحد نفسه، في هذا الحقل أو ذاك من حقول المعرفة، قد يتضمن المادتين معاً، فهو في بعض جوانبه إسلامي المنطلق، وفي جانب آخر غير إسلامـي، ليس بالضرورة في التفاصيل والجزئيات ولكن في الخطوط العريضة ومنطلقات التصوّر الأساسية.

إن ثنائية كهذه تمضي إذن لكي تعمل عملها باتجاهين، أولهما تشكيل نمطين من المحصلات المعرفية متضادين في أسسهما التصورية، وثانيهما جعل المعطى المعرفي الواحد يتضمن إشكالية التداخل بين النمطين.

وإذا كان هذا يبدو واضحاً فيما اصطلح عليه بالفلسفة الإسلامية بسبب من تأثرها الواضح بالفلسفة اليونانية، وتقبلها الكثير من مقولاتها على مستوى المنهج والموضوع، فإنه قد لا يبدو بهذا القدر من الوضوح في حقول علمية أو إنسانية أخرى.

وفي كل الأحوال -كذلك- فإن محاولات الدراسة والتمحيص ومتابعة الارتباط أو الانفصال، تقتضي قدراً كبيراً من الإلمام بأسس التصوّر الإسلامي ومقوّماته من جهة، وبمطالب التخصص العلمي، بهذا الفرع أو ذاك من فروع المعرفة من جهة أخرى. ومعنى ذلك أن المحاولة بمجملها تقتضي فريقاً متكاملاً يضم جناحيه على المتخصصّين الإسلاميين في شتى فروع المعرفة، إذ ليس بمقدور متخصص في الفلسفة ـ مثلاً ـ أن يمارس العمل في حقل التاريخ، وليس بمقدور هذا أن ينفذ المهمة في حقل الفقه والتشريع، كما أنه ليس بمستطاع الآخرين أن يأتيا بنتائج مقنعة وهما يكلّفان بالعمل في حقل اللغويات والآداب والفنون.. وهكذا.

قد يلتقي هؤلاء جميعاً في الخطوط العريضة لمنطلقات العمل، هذه الخطوط أو الضوابط (التصوّرية أو الشرعية) التي لابدّ وأن يحيلوا عليها مفردات الحقول التي يجوسون فيها.. لكن وبعد هذه البداية، بمضي كل منهم في طريقه لكي يتعامل مع فرع يختلف في منهجه وتوجهّاته ومعطياته ونتائجه وطبيعة اهتماماته، عن سائر الفروع الأخرى.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>