كلنا يذكر جيداً ما صاحَب امتحانات آخر السنة الدراسية الماضية من حديث عن الغش، بشكل رسمي أولا من خلال المقالات والتعليقات المختلفة في مختلف المنابر الإعلامية التي تتحدث عن هذه الظاهرة، محلِّلة معلِّلة أو محذِّرة منبّهة، وربما أيضا مستسهلة ومدافعة.
وبانتهاء الامتحانات وخاصة البكالوريا تُطوى الصحف، ومعها يُطوى الحديث عن الغش إلى أن يحين أوانها من جديد مع نهاية هذه السنة الدراسية حتى أصبح وكأن الأمر مجرد يوم وطني أو أيام وطنية محدودة، يُتحدث فيها عن الغِش، لا في غيرها.
بينما الأمر على خلاف ذلك، فالتحذير من الغِش ينبغي أن يكون في الواجهة في كل ما نقوم به، لا في التعليم فقط، ولكن أيضا في غيره من القطاعات.
جمعتني الأقدار مع عدد من التلاميذ في إحدى المؤسسات التعليمية في اليوم الموالي لامتحانات الدورة الأولى للبكالوريا، كنت واقفا بجانبهم وهم يتحدثون بكل فخر واعتزاز عن نجاح خططهم في الغش، مرجعين شيئا من ذلك إلى بعض “الأساتذة الظرفاء” الذين “التزموا بأوامر الله” بوجوب غض البصر عن المحارم، فكانوا نِعْم العون لهم فيما خططوه. استأذنتهم في أن أشاركهم الحوار، وحاولت أن أبين لهم خطورة الغش وانتشاره على المستوى الفردي والجماعي، وأن الغاشّ لن يستطيع كسب مستقبله، حتى وإن كسب النجاح في الامتحان، وأن انتشار الغش هدْر للطاقات وقتل للإبداع وهَدْمٌ لمستقبل البلاد والعباد.
أجابوني بلسان واحد، مما جعلني أشعر بخطورة الوضع، على الأقل انطلاقا مما يعتقدون، فلقد عبّروا عن اقتناعهم التام بأن الغش يسود كل القطاعات، وأن التفوق، وليس النجاح فقط، رهين بركوب متن الغش.
ولَمّا قُلت لهم لنفترض أنكم تفوقتهم في الامتحان بالغِش فكيف تتفوقون في مجال العمل والدخول إلى عالم الشغل، هل يكون أيضا عن طريق الغش و”النقل” أجابني أحدهم: “أنت لا تعرف شيئا يا عم”.
نعم هو يقصد بأني لا أعرف شيئا عن دهاليز الغش ودُرُوبه في عالمنا المليء بالمتناقضات، ربما لأني نشأت وقد مضى ما مضى من عمري وأنا لا أعرف للغش طريقا، بينما هو وأقرانه من الشباب الحالِم بمستقبل باسم لا يرون سبيلا لذلك إلا عن طريق الغِش.
معنى هذا أن الغش أصبح ظاهرة منتشرة في مجتمعنا وليس فقط لدى شبابِنا، وبنية عميقة تنخر قواعد بُنْيانِنا، وتقوض كل أمَل يرُومُ زَرْعَ بُذُور العَدْل وتكافؤ الفرص من جديد.
ولهذا أقول إن محاربة الغش ينبغي أن تكون في الواجهة وضمن كل برامجنا التربوية والتنموية والإعلامية.
- في برامجنا التربوية بجعل محاربة الغش مبدأ أساسيا في كل شيء، بدءاً بتأسيس الأستاذ القدوة الذي لا يرضى بالغش لنفسه ولا لغيره، ويحاربه في القسم كيفما كانت تجلياته، ومروراً بتعويد الناشئة على الاعتماد على النفس وتحسيسها ثم إقناعها بأن الغش من المحرمات الشرعية والقانونية، وانتهاءً بالزجر والعقاب، فإن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
- في برامجنا التنموية باعتماد الشفافية والوضوح في كل شيء، واعتماد معايير الكفاءة والإجادة والإحسان، والمراقبة المستمرة لكل إنجاز أو إنتاج يقوم به فرد أو جهة؛ فكم من طريق عُبِّد، وأصبح حُفراً بعد أيام، وكم من بناية أصبحت أطلالاً بعد شهور، وكمْ من تجهيزات تعطلت بعْد ساعات، وكم… وكم… دون أي رقيب أو حسيب.
- في برامجنا الإعلامية التي ينبغي أن تُبْرِزَ خطورة الغش وأثره المدمر على البلاد والعباد، في كل المجالات وفي مختلف البرامج، حتى يشعر المواطن بأن هناك شيئا يتحرك ضد الغش.
وبدون ذلك تبقى محاربة الغش مرتبطة بالمواسم، وهو ما لا يؤدي إلا إلى استفحال الظاهرة، وقتل كل مقومات الإخلاص والإبداع.