بِنَبْضِ القلب


الأدب والأخلاق

هناك طائفة من المدعين تثور ثائرتها، كلما نطق أحدهم بكلمة “أخلاق” أو جاهر بضرورة حضور البعد الأخلاقي في الإبداع، وسبب ثورتهم أن الفن والأدب تكمن قيمته في تحرره من كل القيم الأخلاقية، وبالتالي فالمبدع لابد وأن ينطلق من غير قيد، ينزع ثيات الناس، وينشر أسرار مخادهم على حبل غسيل طويل، ويحشو كلامه بكل لفظ بذيء، ولا يمكن للإبداع أن يصل تمامه إلا حين – يخدش الحياء العام ويكشف المسكوت عنه… وهلم تفسخا وعهرا.. وإذا رجعنا إلى إبداعات المبدعين الذين وسموا الحياة الإنسانية ببصمتهم، وتركوا آثارها ناطقة على مر العصور، سواء المتقدمين منهم أو المتأخرين، نجد أن البعد القيمي والأخلاقي ظل يلازمهم في كل كتاباتهم، نذكر “أرسطو في كتابه فن الشعر” حيث لم يتصور أن الابداع يمكن أن يتخلى على أحد شقيه (الشكل أو المضمون)، وأن الشكل لا يمكن أن يغنينا عن المحتوى الذي يجب أن يكون جزءا من حياة الناس وعاداتهم، نفس التصور نجده عند  كاتب متأخر هو الكاتب المسرحي الأمريكي “إيمرسون” حيث يذهب ((أن الأدب أخلاقي بطبعه، وأن الإبداع الذي يمتاز بحبكة عالية وجمالية رائعة، لكنه يجهز على الأخلاق والقيم، شكله شكل الجريمة الكاملة، التي لا يترك مرتكبها أي أثر يدل عليه، وهذا إن دل على براعته في التخطيط والحبكة فإنه يدل في نفس الوقت على خسته ونذالته))(1)

إن الذين ينشدون التفسخ في إبداعهم، أغلبهم لا يملكون من مقومات الإبداع إلا النزر اليسير وهم بالتالي يشغلون القارئ بجزءه الأسفل على حساب فكره و عقله ((إن المبدع إذا أقحم الجنس ليعبر عن حالة نفسية أو إنسانية أو مجتمعية ملحة، مثله مثل الطبيب الذي يحلل براز المريض ليكشف عن علته، في حين أن الذي يقحمه من أجل دغدغة النفوس المريضة من غير ضرورة فنية أو أخلاقية، مثله مثل الطفل الذي يعبث بالبراز، وشتان بين الحالتين))(2)..

إن الأدب أشبه بطائر الخبة (La paradisier) وهو طائر جميل يعيش في غابات السافانا، وألوانه تخلب الألباب، وفي نفس الوقت يمتاز بخاصية جميلة هو إخلاصه الرائع لأنثاه وحبه لفراخه.. فالقصيدة الجميلة ذات البناء الفني الرائع، والحاملة للقيم الإنسانية العالية، والقصة العالية الحبكة والمنافحة عن قيم الجمال والعفة هي ما تحتاته مجتمعاتنا اليوم، وليس الاعتناء بالشكل على حساب المضمون كما يذهب إلى ذلك الشكلانيون، لأن الابداع حينها سيتحول إلى زهور بلاستيك، تخلب عقولنا عن بعد، لكن حين نلمسها نجدها بلا روح ولا رائحة.

1) الدكتور نبيل راغب “المذاهب الأدبية من الكلاسيكية إلى العبثية” دار الثقافة مصر.

2) من مقدمة المجموعة القصصية “سلة الرمان” للأديب ا لسوري إبراهيم عاصي.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>