آية كَتْب الصيام: معاني وفوائد


قال الله جلت حكمته : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة 183).

مناسبة الآية في سورة البقرة:

هذه الآية الكريمة وردت في أواسط سورة البقرة. وهي مطلع لمقطع يتضمن الصيام وزمانه وشرفه وعددا من أحكامه بأسلوب بديع يبين عظمة هذه العبادة وموقعها في بنية الدين.

فقد جاء الكلام عن الصيام في سياق عدد من الأحكام والتوجيهات التي خاطب بها القرآن الكريم الأمة المسلمة وهو يؤسس شخصيتها المميزة في ذاتها وفي علاقاتها بغيرها. ويبين وجوه التلاقي والافتراق مع ذلك الغير في كل ذلك.

وقد رجع الإمام البقاعي وهو يتلمس سياق هذه الآية إلى الآية 171: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ…}. وأن الله تعالى تدرج بالإنسان في علاقته بالمال في سُلَّم من المجاهدة والترقي إلى أن يبلغ الذروة المتحققة بالصيام.

فكان التوجيه الأول هو تحري الطيبات، ثم تلاه توجيه في الإباحة حال الاضطرار وهو عدم العدوان، ثم تلاه توجيه في الإنفاق تطوعا وفرضا، ثم تلاه توجيه بخصوص الوصية بالمال.

قال الإمام البقاعي: “فَتَدَرَّبَت النفس في الزهد بما هو معقول المعنى بادئ بدء من التخلي عنه لمن ينتفع به، أتبعه الأمر بالتخلي عنه لا لمحتاج إليه بل لله الذي أوجده لمجرد تزكية النفس وتطهيرها…”(1).

ومعناه أن التخلي -بالصيام- عن الشهوة في مظاهرها القوية، هو تحرر كامل من سلطة المال؛ لأن الإنسان وهو ينفق المال قد لا يستطيع التخلص من الإحساس باللذة وهو ينفع الآخرين. بخلافه عند الصوم فإنه ليس له لذة سوى رضى الله تعالى.

فهذا وجه من وجوه المناسبة.

ووجه آخر لاحظه سيد قطب وهو يربط آية الصيام بما جاء بعدها عن الحج والقتال، وكلاهما جهاد، يقول: “ولقد كان من الطبيعي أن يفرض الصوم على الأمة التي يفرض عليها الجهاد في سبيل الله، لتقرير منهجه في الأرض، وللقوامة به على البشرية… فالصوم هو مجال تقرير الإرادة العازمة الجازمة، ومجال اتصال الإنسان بربه اتصال طاعة وانقياد؛ كما أنه مجال الاستعلاء على ضرورات الجسد كلها، واحتمال ضغطها وثقلها، إيثارا لما عند الله من الرضى والمتاع. وهذه كلها عناصر لازمة في إعداد النفوس لاحتمال مشقات الطريق..!”(2).

مطلع المطلع: (يا أيها الذين آمنوا….)

أول ما يطالعنا، هو هذا النداء الكريم منه جل جلاله لعباده المؤمنين. روي عن جعفر الصّادق رضي الله عنه : لذة “يا” في النداء أزال تعب العبادة والعناء”(3). وقال سيد قطب : “إن الله -سبحانه- يعلم أن التكليف أمر تحتاج النفس البشرية فيه إلى عون ودفع واستجاشة لتنهض به وتستجيب له؛ ومن ثم يبدأ التكليف بذلك النداء الحبيب إلى المؤمنين، المذكر لهم بحقيقتهم الأصيلة”(4).

ومفاد هذا الكلام أن من أوائل ما ينبغي العناية به تحصيل الإيمان وتحقيقه وذوق حلاوته؛ لأنه أساس العبادة والدافع القوي إليها.

ما هو الصيام:

الصيام والصوم في الأصل الإمساك عن الفعل مطعما كان أو كلاما أو مشيا(5).

وهو عند أبي السعود “الإمساك عما تُنازِعُ إليه النفسُ”. فنبه بذلك على أن في الصوم معنى منازعة الشهوة ومغالبتها.

وأما في الشرع فقد قال الجصاص هو اسمٌ للكَفِّ عن الأكل والشرب وما في معناه، وعن الجماع في نهار الصوم مع نية القربة أو الفرض”(6).

وقد ورد الصيام في الآية مُعَرَّفاً، قال ابن عاشور : فالتعريف في “الصيام” في الآية تعريف العهد الذهني، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف. وقد كان العرب يعرفون الصوم، فقد جاء في “الصحيحين” عن عائشة قالت: ((كان يومُ عاشُوراءَ يوماً تصومه قريش في الجاهلية)) وفي بعض الروايات قولها: ((وكان رسول الله يصومه))… فالمأمور به صوم معروف زيدت في كيفيته المعتبرة شرعاً قيودُ تحديد أحواله وأوقاته… وبهذا يتبين أن في قوله: {كتب عليكم الصيام} إجمالاً وقع تفصيله في الآيات بعده.

فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها،  ولم يكن صيامنا مماثلاً لصيامهم تمام المماثلة”(7).

كََتْبُ الصيام:

ذهب سائر المفسرين إلى تفسير الكتب بالفرض أو الإيجاب. واعتبروا الآية بذلك نصا في فرض الصيام ووجوبه. وفي هذا الموضع فوائد منها:

1- في استعمال لفظ “الكتب” بدل الفرض أو الوجوب، مزيد تأكيد على وجوب هذا الركن من أركان الإسلام. يقول المصطفوي: “في الكتابة دلالة أكيدة على التثبيت أقوى من الحكم و القضاء والتقدير والفرض والإيجاب. وعلى هذا يعبّر بالمادّة في موارد يكون النظر فيها إلى التثبيت اللازم، فيقال: هذا مكتوب، وهذا كتاب، وقد كتب هذا”(8).

2- قال أبو حيان: وبناء {كُتب} للمفعول في هذه المكتوبات الثلاثة(9)، وحَذْفُ الفاعل للعلم به، إذ هو: الله تعالى؛ لأنها مشاق صعبة على المكلف، فناسب أن لا تنسب إلى الله تعالى، وإن كان الله تعالى هو الذي كتبها، وحين يكون المكتوب للمكلف فيه راحة واستبشار يُبْنى الفعل للفاعل، كما قال تعالى: {كَتَب ربكم على نفسه الرحمة} {كَتَب الله لأغلبن أنا ورسلي}… وهذا من لطيف علم البيان”(10).

كتب الصيام علينا وعلى من قبلنا:

اختلف المفسرون في التشبيه الوارد في الآية على أقوال، ووجدت لابن عاشور كلاما شاملا وافيا بالمقصود، يقول: “قوله: {كما كتب على الذين من قبلكم} تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيهُ يُكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالةَ في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة،  ولكن فيهم أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه:

أحدها الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها… وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم.

والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم..

والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة”.

واختلفوا في المقصودين بقوله: {الذين من قبلكم}، فعند الطبري أنهم أهل الكتاب…؛ لأن مَنْ بَعْدَ إبراهيم كان مأمورا باتباع إبراهيم، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جعله للناس إماما، وقد أخبرنا الله عزّ وجل أن دينه كان الحنيفية المسلمة، فأمر نبينا بمثل الذي أمر به مَنْ قبْلَه من الأنبياء”(11).

وذهب ابن العربي إلى أن “ظَاهِرَ الْقَوْلِ رَاجِعٌ إلَى النَّصَارَى لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُمْ الادْنَوْنَ إلَيْنَا. الثَّانِي أَنَّ الصَّوْمَ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ كَانَ إذَا نَامَ الرَّجُلُ لَمْ يُفْطِرْ، وَهُوَ الاشْبَهُ بِصَوْمِهِمْ”(12).

وذهب آخرون منهم الزمخشري إلى أن المقصود: “الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم. وحكاه عن عليّ رضي الله عنه. ثم قال: “يعني أنّ الصوم عبادة قديمة أصلية ما أخلى الله أمّة من افتراضها عليهم، لم يفرضها عليكم وحدكم”(13).

وبقريب من هذا القول يقول رشيد رضا مستنتجا: “وفي إعلام الله تعالى لنا بأنه فرضه علينا كما فرضه على الذين من قبلنا إشعار بوحدة الدين في أصوله ومقصده، وتأكيد لأمر هذه الفريضة وترغيب فيها”(14).

ثمرة الصيام:

لا شك أن من أهم ثمرات الصيام ما ختمت به هذه الآية من التقوى. في قوله تعالى (لعلكم تتقون).

يقول ابن عاشور “وقوله: {لعلكم تتقون} بيان لحكمة الصيام وما لأجله شُرع،… والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي، وإنما كان الصيام موجباً لاتقاء المعاصي، لأن المعاصي قسمان:

- قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصْب فتركُه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير.

- قسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها… وفي الحديث الصحيح ((الصَّوْمُ جُنَّة)) أي وقاية ولَمَّا تُرك ذكر متعلَّق جُنَّة تعيَّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة، ووقاية من العِلل والأدْواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات”.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات

—–

1 – نظم الدرر 3/ 39-40

2 – في ظلال القرآن، تفسير الآية (البقرة 183)

3 – تفسير الثعلبي. تفسير الآية (البقرة 183)

4 – في ظلال القرآن، تفسير الآية (البقرة 183)

5 – مفردات القرآن للأصفهاني/ صوم

6 -  أحكام القرآن للجصاص تفسير الآية (البقرة 183)

7 – التحرير والتنوير تفسير الآية (البقرة 183)

8 – التحقيق في كلمات القرآن للمصطفوي/ كتب.

9 – يقصد في آية القصاص 177 وآية الوصية 179 وآية الصيام 181.

10 – البحر المحيط تفسير الآية (البقرة 183)

11 – جامع البيان تفسير الآية (البقرة 183)

12 – أحكام القرآن تفسير الآية (البقرة 183)

13 – الكشاف تفسير الآية (البقرة 183)

14 – المنار، تفسير الآية (البقرة 183).

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>