د. حسن الآمراني
المقصد الجمالي، أو الزينة:الجمال قيمة عليا في الإسلام، ينبه إليها القرآن الكريم في كثير من آياته. ويكفي أن نقرأ سورة النحل لنرى كيف يلفت القرآن الكريم النظر إلى الجمال في كل مظاهر الكون. فلعل الإنسان يقف عند بعض المخلوقات أو المظاهر الطبيعية فلا يرى فيها غير جانب المنافع. بيد أن القرآن الكريم يلفت نظره إلى ما فيها من جمال، لينتبه إلى أن المنفعة والجمال متلازمان في كل شيء.
وهذه بعض المظاهر التي نص عليها القرآن الكريم، مما يجمع بين الجمال والمنفعة:
{وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(النحل: 5- 8).
والأنعام ثمانية أزواج: الإبل والبقر والغنم والمعز، وذكر من منافعها الدفء، إذ يصنع الإنسان من أصوافها وأشعارها، وأوبارها من اللباس ما يكون دفئا له، وهذه منفعة واضحة، بالإضافة إلى منافعها الأخرى، ولكن القرآن الكريم يلفت النظر إلى ما فيها من جمال أيضا.
وذكر الخيل والبغال والحمير، وذكر من فوائدها الركوب، ثم ذكر أنها زينة أيضا.
ويقول تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}(النحل: 14). فالبحر المسخر للإنسان فيه منفعة وفيه جمال. ومن مظاهر الجمال والزينة ما يستخرج من حلية تلبسونها.
فالحلية التي يلبسها الإنسان إنما هي للزينة والجمال، وإلا فإنها لا تدفع حرا ولا قرا.
ومن مظاهر الزينة والجمال في اللباس ما نجده في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشًا}. فالريش إنما هو للزينة والجمال.
والجمال في اللباس مطلب حضاري، ما لم يتجاوز إلى الإسراف والكبرياء… وقد قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}(الأعراف: 31).
والمراد بالزينة هنا اللباس.
وقال البراء رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم : ((وقد رأيته في حلة حمراء، ما رأيت شيئا أحسن منه))(صحيح البخاري: كتاب اللباس).
ولا يقال للحلة حلة إلا إذا كانت في ثوبين.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان أحبّ الثياب إلى النبيصلى الله عليه وسلم أن يلبسها: الحبرة))(صحيح البخاري: كتاب اللباس)، والحبرة -بالباء- ثياب يمانية، يضرب بها المثل في الحسن والجودة، وكان عمر رضي الله عنه إذا طلب الشعر الجيد يقول: انثروا علينا حبرات قس، يعني شعر قيس بن الخطيم.
وعن أنس بن مالك قال: ((كنت أمشي مع النبيصلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية))(صحيح البخاري: كتاب اللباس).
على أن اللباس إذا تجاوز به صاحبه حد الاعتدال في الزينة صار مذموما، قال النبيصلى الله عليه وسلم : ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير إسراف ولا مخيلة))(صحيح البخاري: كتاب اللباس).
وعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: ((لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه خيلاء))(المصدر نفسه).
وقد حدثنا الله تعالى عن قارون فقال سبحانه: {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ}(القصص: 79- 81).
عن أبي هريرة أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: ((بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه، مرجّل رأسه، يختال في مشيته، إذ خسف الله به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة))(متفق عليه).
أما إذا كان التجمل لا خيلاء فيه ولا إسراف فهو مطلوب. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر. فقال رجل: إن الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة. قال: إن الله جميل يحب الجمال. الكبر بطر الحق وغمط الناس))(رواه مسلم).
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: ((العزّ إزاري والكبرياء ردائي، فمن ينازعني في واحد منهما فقد عذبته))(رواه مسلم، وانظر رياض الصالحين: 271).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجمل للوفود ( انظر التراتيب الإدارية لعبد الحي الكتاني: 452) وفي المستطرف للإبشيهي(2/26) قالصلى الله عليه وسلم : ((تعمموا تزدادوا جمالا)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((العمائم تيجان العرب؛.
وكان الزبير بن العوام يقاتل يوم بدر وعليه عمامة صفراء. فتنزلت الملائكة وعليهم عمائم صفر قد أرخوها.
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل، فتخلف عن الجيش، وأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه عمامة سوداء من خز، فنقضها رسول الله صلى الله عليه وسلم وعممه بيده لما بين كتفيه قدر شبر وقال: هكذا أعمّم يا ابن عوف.
وظلت العمامة رمز المهابة عند العرب. قال المتنبي في سيف الدولة: ((لأبلج لا تيجان إلا عمائمه)).
وبعث ملك الروم إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة ديباج فلبسها، ثم كساها غيره.
وكان سعيد بن المسيب يلبس الحلة بألف درهم ويدخل المسجد، فقيل له في ذلك فقال إني أجالس ربي.
ومن مظاهر الزينة والتجمل في الثياب أن الناس ينوعون في الأشكال والألوان، ولو كان الأمر أمر دفء فقط لما كان للأشكال والألوان كبير فائدة. ومما هو مشهور أن تاجرا قدم إلى المدينة يحمل من خُمُر العراق، فباع الجميع إلا السود، فشكا إلى الدارمي ذلك، وكان الدارمي قد نسك وتعبد، فعمل أبياتا منها:
قل للمليـحة في الخمار الأسود
ماذا فعلت بنـاسك متعبد
قد كان شمّر للصلاة إزاره
حتى قعدت له بباب المسجد
فشاع الخبر في المدينة إن الدارمي رجع عن زهده وتعشق صاحبة الخمار الأسود، فلم يبق في المدينة مليحة إلا اشترت لها خماراً أسود ، فلما أنفد التاجر ما كان معه رجع الدارمي إلى تعبده وعمد إلى ثياب نسكه فلبسها.
ولو أردنا استقصاء الباب لطال الحديث، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق.
هذا في الدنيا. ومظاهر التجمل في الثياب ممتدة إلى يوم القيامة: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}(الإنسان: 21).