صندوق الـمقاصة : وظـائف ومسارات إصلاح


عبد الرحمن الغربي

على هامش الجدل الدائر بخصوص إمكانية إلغاء الصندوق

تعتمد الدولة في تسيير الشأن الاقتصادي على عدد من المؤسسات والآليات من أجل الإسهام في تدبير الدورة الاقتصادية للبلاد، وتحقيق قدر من التوازن بين ثمن الاستهلاك والقدرة الشرائية للمواطنين، ومن بين أهم هذه المؤسسات صندوق الموازنة أو صندوق المقاصة والذي يتكفل أساسا بدعم المواد ذات الاستهلاك الواسع مراعاة للقدرة الشرائية للمواطن البسيط، وكذلك دعما لإنتاج المواد الأساسية.

ومما أثار اهتمام الرأي العام في الآونة الأخيرة، دعوة حكومة بنكيران إلى ضرورة إصلاح الصندوق، بدعوى  ما يسببه من إنهاك للميزانية العامة، بل هناك آراء من داخل الحكومة دعت إلى إلغائه لما يمثله من استنزاف متصاعد لنفقات الدولة، وإثقال لكاهل  الدولة بمصاريف متزايدة.

وقبل الحديث عن مسارات إصلاح الصندوق، والدواعي الموضوعية لإلغائه أو تحجيم دوره، لا بأس من إعطاء نظرة موجزة عن مراحل تأسيس الصندوق، وظروف نشأته، والوظائف المنوطة به.

 أولا-  تأسيس  صندوق المقاصة :

إِبَّان الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وما مثلته من استنزاف متصاعد لدولة الاستعمار فرنسا، ثم إنشاء صندوق المقاصة من قبل السلطات الاستعمارية سنة 1941 للتخفيف من حدة الانعكاسات السلبية للحرب العالمية الثانية على اقتصادها واقتصاد مستعمراتها. ذلك أن تكلفة الاستعمار لم تكن هينة من الناحية الاقتصادية، فالمستعمر كان حريصا على ضمان قدر من “الاستقرار” داخل مستعمراته، من خلال توفير الحاجيات الأساسية للمواطنين وبأسعار معقولة تجنبه أي نوع من الاحتقان. فالمستعمر آنذاك كان يعاني أصلا من شرارة المقاومة المسلحة في مختلف مناطق البلاد، ولم يكن مستعدا لمزيد من التوتر.

 

بيد أن صندوق المقاصة عرف التأسيس الرسمي كمؤسسة ذات استقلال مالي وشخصية معنوية سنة 1965، لكن القانون الرسمي المنظم له لم يصدر إلا سنة 1977.

ثانيا- وظائف صندوق المقاصة :

لقد كان الهدف الأساسي من إنشاء صندوق المقاصة هو دعم القدرة الشرائية للفئات الفقيرة ومحدودي الدخل، وتوفير الحماية الاجتماعية لهم، في مواجهة غلاء المعيشة      و تقلبات أسعار المواد الأساسية.

ومن ثم يكتسي الصندوق أهمية  قصوى في إطار الوظائف الاجتماعية  للدولة، وهكذا تم  تحديد مجموعة من المهام والوظائف أبرزها :

- تنظيم التزود بالمواد الاستهلاكية الأساسية.

- تأمين  المقاولات من تقلبات أسعار المواد الأولية.

- حماية المستهلك عبر التحكم  في أسعار المواد الاستهلاكية.

وجدير بالذكر أن المقاصة كنظام للتحكم في الأسعار، يتوزع عبر مؤسستين، يتولى صندوق المقاصة دعم المواد الطاقية و مادة السكر، بينما يتولى المكتب الوطني المهني  للحبوب والقطاني بتدبير دعم الدقيق.

على أن هذا الصندوق يهدف بصفة عامة إلى المحافظة على القدرة الشرائية للفئات الفقيرة والمتوسطة، ويسعي إلى تكريس العدالة الاجتماعية، وتحقيق الاستقرار الاقتصادي. فهل حقق الصندوق بعضا من أهدافه ؟

ثالثا- تقويم تجربة صندوق المقاصة :

مرت اليوم أزيد من خمسين سنة على تأسيس صندوق المقاصة كآلية لضبط الأسعار وجعلها في متناول أوسع فئات المجتمع، ذلك أن تدخل الدولة عن طريق الصندوق  يهدف إلى تغطية  الفارق بين تكلفة الإنتاج  وسعر البيع، فهل استطاعت هذه الآلية ضبط الأسعار وفق القدرة الشرائية لمحدودي الدخل؟ وهل ذهبت أموال الدعم -فعل- إلى مستحقيها؟ وما صحة  ما يقال من أن النصيب الأوفر من الدعم يذهب إلى جيوب الأغنياء وإلى  خزينة الشركات الكبرى المنتجة للمواد  المدعمة؟…

من أجل تقويم تجربة الصندوق، ينبغي النظر إلى نسبة الدعم المخصص للمواد الأساسية، وقياسها مع حجم الاستهلاك، فمثلا : بالنسبة للسكر كمادة أساسية ذات الاستهلاك الواسع يبلغ حجم دعمه حوالي 15%، بينما كان يبلغ حجم دعم الزيت حوالي 50%، أما غاز البوتان فيبلغ  حجم  دعمه حوالي 60%.

وإذا كانت نسبة الدعم تتفاوت بحسب قيمة ما أنتج، وبحسب كذلك درجة استهلاكه، فإن الملاحظة الأساسية  بخصوص هذا الدعم أن المستفيد الأكبر منه هو الشركات الكبرى التي تعيد إنتاج المواد المدعمة، وتعيد بيعها في السوق بثمنها الحقيقي أي دون استخلاص ثمن الدعم الممول من المال العام.

وهكذا  يتضح  أن أموال دعم صندوق  المقاصة، والتي تثقل  كاهل الميزانية العامة، لا تذهب في الاتجاه الذي رصدت من أجله، أي دعم القدرة الشرائية للمواطنين و جعل أسعار المواد الأساسية في متناول الجميع، بل “إن الضعفاء الذين أحدث من أجلهم الصندوق لا يستفيدون إلا بنسبة 47% فيما يستفيد الأغنياء الذين يشكلون قلة قليلة في المجتمع من 53% منه”(1)، و هذا الوضع هو ما جعل الحاجة  ماسة إلى إدخال إصلاحات أساسية تهم  آليات  صرف الدعم  بحيث يستهدف الفئات المستحقة دون غيرها.

رابعا- مسارات إصلاح  صندوق المقاصة:

بناء على وظائف صندوق المقاصة، وبناء على الواقع الذي أصبحت عليه وضعية الصندوق، فإن “إصلاح الصندوق أصبح مطلبا ملحا،لأنه يهدد الاستقلال الاقتصادي للمغرب، وهذا التوجه تفرضه عدة عوامل أهمها ارتفاع نفقات الدعم بنسبة 6.6% من الناتج الداخلي الإجمالي عام 2012″(2)..

وتجدر الإشارة إلى أن نظام دعم المواد الغذائية الأساسية عرف إصلاحات منذ بدء سياسة التقويم الهيكلي في القطاع الفلاحي سنة 1985، وتجلت أهم مظاهرها في : البدء في إلغاء دعم  مواد الإنتاج  بالتدريج وانسحاب الدولة من الأنشطة ذات الطابع التجاري، كما جرت خصخصة عدة شركات ذات طابع فلاحي، إضافة تحرير واسع للتجارة الخارجية للمنتجات الفلاحية شملت السكر والزيت والحبوب.

وهكذا عرف صندوق المقاصة عدة إصلاحات همت بالأساس الرفع التدريجي للدعم عن المواد الاستهلاكية كما يلي :

1983 : إلغاء دعم الحليب و الزبدة..

1984 :إلغاء دعم الغازوال الفلاحي.

1988 : تحرير أسعار القمح الصلب و الشعير و الذرة.

1996 : تحرير التجارة الخارجية بتخفيض الاقتطاعات الجمركية على الزيت.

2000 : تحرير قطاع الزيوت الغذائية بشكل كامل.

فما هي مسارات إصلاح صندوق المقاصة؟ وما هي البدائل المحتملة لإلغاء الصندوق؟ وما هي التكلفة  المتوقعة لإصلاح الصندوق على المستوى الاقتصادي والاجتماعي؟……

رغم تأكيد عدد من الأصوات داخل الحكومة على أن مخطط الإصلاح سيتم تدريجيا “قبل تحرير الأسعار فإن المواطن سيوضع أمام محك اقتناء المواد الأساسية بسعرها الحقيقي في السوق”(3).

وهكذا ستتحول الأسعار بعد حذف الدعم على الشكل التالي:

 

قبل استعراض أهم التوجهات المطروحة بخصوص إصلاح صندوق المقاصة يتعين التأكيد على أن هناك إجماعا بخصوص كون صندوق المقاصة يلتهم ميزانية ضخمة للدولة، وأن الضعفاء الذين أحدث هذا الصندوق من أجلهم لا يستفيدون إلا بنسبة ضئيلة، بينما الحجم الأكبر للدعم يذهب إلى كبار المستهلكين وعلى رأسهم الشركات التجارية.

وهكذا يمكن حصر التوجهات الأساسية في إصلاح صندوق المقاصة في المسارات التالية :

1- الدعم المالي المباشر للفئات الفقيرة، وهو ما يتطلب إحصاء دقيقا للفقراء وتصنيفا لهم بحسب حاجياتهم وحجم استهلاكهم، وهي عملية ليست بالهينة بل هي عملية في غاية التعقيد ودونها صعوبات جمة ليس أقلها صعوبة تحديد دقيق للفئة التي تندرج ضمن الفقراء، ثم إشكالية التغيير المحتمل في الوضعية المادية لبعضهم سواء في اتجاه العجز أو في اتجاه الاستغناء عن الدعم، مما يتطلب تتبعا مطردا للمستفيدين من الدعم المالي.

2- إقرار الضريبة على الثروة، لجعل الأغنياء يساهمون إسهاما فعالا في حل الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للبلاد. وتقنين الإعفاءات الضريبية التي يستفيد منها كبار المستثمرين على وجه الحصر، مع تقديم تحفيزات ضريبية للمقاولات الصغيرة والمتوسطة.

3-  التخفيف من النفقات العمومية في التسيير من خلال إعادة النظر في عدد من المصاريف أسطول سيارات الدولة الذي يكلف الخزينة العمومية أموال باهظة، وكذا تقليص أجور كبار الموظفين والحد من التعويضات الجزافية المبالغ فيها. كذلك تقليص عدد النواب والمنتخبين الذين يكلفون ميزانية هامة.

4- إلغاء الرواتب العالية التي تتنافى مع بلد محدود الموارد، وخاصة في”بعض القطاعات كالرياضة، فمن غير المنطقي أن يساوي أجر مدرب كرة القدم الحالي أجر ثمانية وزراء،ويساوي أجر المدرب السابق أجر الحكومة بأكملها”(4).

إن إصلاح نظام المقاصة جزء لا يتجزأ من إصلاح المنظومة الاقتصادية في البلاد، والتي تتطلب إجراءات مستعجلة، وقرارات صارمة وشجاعة تقطع مع اقتصاد الريع، ونظام الامتيازات، الذي يعطل التنافسية التي تقوي الاقتصاد، وتحقق التنمية الحقيقية.

—–

1-   بلال التليدي : التجديد ع 3081

2- نزار بركة : الأخبار ع 81

3- يوسف العمادي : الأخبار ع 81

4- عبد النبي اضريف : المساء ع 2010

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>