إصلاح-المجتمع-ومجالاته-5


أثر المسجد والتعلق به في صلاح الفرد والمجتمع

عن أبي هريرة رضي الله عنه لعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إني أخاف الله. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه))(1). قال صلى الله عليه وسلم : ((… ورجل قلبه معلق بالمساجد…)) – في البداية أريد أن أنبه إلى قضية المساجد التي تعلق بها قلب هذا الرجل فهي بيوت الله تعالى التي اختارها لتكون مثابة للناس وجعلها عناوين على الكثير من الفضائل كما تدل على ذلك نصوص منها قوله تعالى : {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}(التوبة : 18). وقوله تعالى : {في بيوت اذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدوّ والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ويخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والابصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب}(النور : 36- 38) وقوله تعالى :  {لمسجد اُسِّس على التقوى من اول يوم احقُّ أن تقوم فيه، فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطّهّرين}(التوبة : 108) وغير ذلك من النصوصالتي بيّـنت الدوافع التي ينبغي أن تؤطر عملية تأسيس المساجد وبنائها والمقاصد التي ينبغي أن تحققها والتي ينبغي أن تكون نُـصْب عين المؤمن يسعى إلى تحقيقها وهو يتردد على المساجد ومن أهمها :ترسيخ الإيمان بالله واليوم والآخر وإقامة الشعائر من صلاة وزكاة وذكر لله تعالى وخشية له… وغيرها من الفضائل الظاهرة والباطنة. – وأشير أيضاً إلى اسمه “المسجد” وهو موضع  السجود مع أن المؤمنين في المسجد يقومون لله قانتين ويركعون  ويسجدون ويجلسون لإلقاء التحية بين يدي رب العالمين بالإضافة إلى أمور أخرى كالدعاء وتلاوة القرآن الكريم وطلب العلم والاعتكاف وغيرها مما يمثل ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم… ولكن من هذه الوظائف كلها للمسجد اشتق اسمه من السجود لأنه أكبر مظاهر الخضوع لله العلي الأعلى الوهاب، ولأن المؤمن عندما يعفر وجهه في الأرض فهو يعبر بذلك عن التذلل المطلق لله تعالى، ذلك بأن الوجه هو مجمع محاسن الإنسان وهو رمز كرامته وصفحة فؤاده فوضعه في الأرض لا يكون إلا لله العلي العظيم كعنوان على الخضوع له وامتثال أمره. فمن النتاقض الكبير أن يسجد الإنسان بين يدي الله ثم يستعلي على أمر الله ويتمرد على حكم الله . – قال تعالى : {وأن المساجد لله…}، فإذا تحدثنا عن الملك فإن السماوات كلها والأرضين كلها ملك لله تعالى(2)، وإذا تحدثنا عن المكان الذي يعبد فيه الله تعالى  فالأرض كلها -في شريعة الإسلام- مسجد كما نص على ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((…وجُعِلت ليَ الأرض مسجداً وطهوراً…))(3) ومع ذلك فإنه سبحانه وتعالى لم يُـضِـف شيئاً منها إلى نفسه وإنما اختص المساجد بالإضافة ، فهي إضافة تشريف ، وتنبيه المؤمنين إلى أن لها عنده مكانة خاصة فيقتضي ذلك أن تحظى هذه المساجد بالعناية والرعاية الخاصة من العامة والخاصة . – إن من حق الأمة أن تكون لها مكانة في المسجد ومن حق المسجد أن تكون له مكانة في الأمة : لقد بُـعِث رسول اللهصلى الله عليه وسلم في مكة حيث المسجد الحرام وقد هيمنت عليه الوثنية وملأت جنباته بالأصنام -آلهة مزعومة- وأقامت فيه شعائرها المنحرفة من تصفيق وصفير وتقديم القرابين والطواف بأجساد عارية وغيرها. وفي المقابل عملت  كل ما في وسعها وبكل الوسائل، على منع رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه من الصلاة فيه وعلى إقصائهم  منه بممارسات متطرفة طفحت بها كتب السيرة. ورغم ذلك فإن عباد الله المتقين كانوا يزاحمون المشركين  في المسجد بأداء الصلاة وبالطواف وتلاوة القرآن الكريم  ويدفعون ثمن ذلك ، لأنهم لم يكونوا يرون أن دخولهم المسجد الحرام والصلاة وقراءة القرآن فيه، مجرد حق ينبغي التشبث به بل كانوا يرون أنه واجب لا يمكنهم التنازل عنه فانصفهم الله تعالى فقال : {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله…}(البقرة : 217) فجعلهم أهل المسجد الحرام ، وقال أيضاً : {وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون ولكن أكثرهم لا يعلمون وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية}(الأنفال : 34) فبيّن ضلال المشركين فيما كانوا يعتقدونه عبادة وحصر ولاية المسجد الحرام في المتقين وهم وقتئذ رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم. -  وعندما انتقل رسول الله إلى المدينة المنورة بنى في الأسبوع الأول  من وصوله إليها وحلوله بها ثلاثة مساجد: مسجد قباء في ديار بني سالم بن عوف ومكث فيهم ثلاثة أيام، ومرّ  بديار بني عمرو بن عوف (بني عمومتهم)  وكان بينهم منافسة في الخير فعزموا عليه أن يمكث فيهم مثل ما مكث في ديار بني سالم فمكث فيهم أيضاً ثلاثة أيام فأدركته الجمعة فصلى أول جمعة في الإسلام وبنى في ذلك المكان مسجد الجمعة وبنى المسجد النبوي في اليوم السابع من وصوله إلى طيبة … – ففي مكة المكرمة عبّـر رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم عن حق الأمة ومكانتها في المسجد  وفي المدينة المنورة عبروا عن حق المسجد ومكانته في الأمة حيث عُـدّ واحداً من مقومات المجتمع المسلم بما يمثله من رمز للإيمان والتدين السليم والاعتدال في الفكر والعقيدة والسلوك. < ولقد غاظ المنافقين دورُ المسجد في بناء الأمة وجمع طاقاتها وتوجيهها حتى صارت تتحرك وتستفيد من جميع طاقات جميع أبنائها فلجأوا إلى المكر فبنوا مسجداً لتفريق جماعة المؤمنين واستقبال واحد من ألدّ أعداء الله ورسوله  وهو أبو عامر الراهب الذي كان خارج المدينة عند هرقل(4) يستنصره على رسول اللهصلى الله عليه وسلم، قال تعالى : {الذين اتخذوا مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المومنين وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل وليحلفُنّ إن اردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون لا تقم فيه أبداً…}(التوبة : 107- 108).  ولقد أغاظ اليوم أناساً ما يقوم به المسجد  فزعموا- بجهل وغباء أو بخبث ودهاء-  أن كل المساجد باستثناء المساجد الثلاثة: (المسجد الحرام والمسجد النبوي والمسجد الأقصى) كلها  مساجد ضرار وعملوا على صد المسلمين عنها بدعوى أن فيها بدعاً. – إن من علامات التمسك بالسنة النبوية عمارة المساجد لأن رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنه فعلوا ذلك ولم يمنعهم ما كان في المسجد الحرام من الأصنام والبدع، وأهلُ التقى لا يتنـزهون عما فعله رسول اللهصلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فهم أهل المساجد وأولياؤها. إن مما يؤهل الرجل لظل عرش الرحمان أن يكون قلبه معلقاً بالمساجد. ولا شك أن الشيء الواحد -القلب هنا- لا يكون معلقاً إلا في مكان واحد، وصيغة الجمع في كلمة المساجد تعني أن هذا الرجل ليس ممن يتسمّـرون في المسجد الواحد بل وفي المكان الواحد من هذا المسجد. والذي يفعل ذلك إنما يفعله لأسباب كثيرة كالكسل أو لأنه يشعر بالأُنْـس في مسجد ما لوجود أهل طائفته أو مذهبه أو غير ذلك من الاعتبارات التي جاء الإسلام ليذيبها في جامعته. إن هذا الرجل منطلق في الحياة يمشي في مناكب الأرض يبتغي من فضل الله وكلما اقترب وقت الصلاة بحث عن قلبه في أقرب مسجد يؤدي فيه ما فرض الله تعالى عليه يشعر أنه مع إخوان له وأنه مهما اختلف معهم فإن كلمة “الله أكبر” أكبر، “ولذكر الله أكبر” ولئن ضاقت بعض القلوب الصغيرة بسوء فهم المذاهب فإن شريعة الله الأكبر اتسعت لكل المذاهب. – ((ورجل قلبه معلق بالمساجد)) صورة توحي بأن الرجل انتزع قلبه من صدره وعلّـقه في المساجد وانطلق في الحياة يجمع بين ما تقتضيه رسالته من حضور إيجابي في ما تيسر له من جوانب الحياة وما تؤهله له مكانته منها، وبين لحظات يعتزل فيها الخلق ويلجأ إلى الخالق يتصل به في بيته يخضع فيه لعظمته ويتواضع راكعاً وساجداً لله تعالى : {يرجو رحمته ويخاف عذابه}. – إن بقاء قلب الرجل معلقاً في المساجد توحي أيضاً بأن حالته -وهو خارج المسجد- من الذكر والخشوع والدعاء والصلة بالله  كحالته وهو داخله لأنه لم يغادر المسجد إلا بقالبه وأما  قلبه الذي هو موضع نظر الله تعالى وأمير جوارحه ودليلها فقد بقي في المسجد . كما توحي هذه الصورة أنه يتصرف في مجالات الحياة المختلفة بمرجعية واحدة هي مرجعية الكتاب والسنة وبقية ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يوزَّع في المسجد، لأن القلب الذي يستقبل التوجيهات والأفكار والأحكام لا يغادر المسجد حتى ولو غادره الجسد. وهكذا ينبغي أن تكون آثار المساجد فينا. – وفيه أنه يحب المساجد وهو مما تعنيه عبارة تعليق القلب بها وأن أفضل الأوقات عنده هي تلك  التي يقضيها في المسجد إنـه أكثر تأهلاً لنيل الدرجات الرفيعة عند الله تعالى الواردة في قوله صلى الله عليه وسلم: (( أَلا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ : إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ عَلَى المَكَارِهِ ، وَكَثْرَةِ الخطَى إِلَى المسَاجِدِ ، وَانْتِظَارِ الصَّلاةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ، فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمُ الرِّبَاط))(5) وهذه المحبة منه للمساجد يلزم منها أنه يعمرها ويعتني بها  ويدافع عن حرماتها . – وفي هذا تعريض بالذين يدخلون المساجد ويتصرفون فيها كما يتصرفون في الأسواق وينقلون ما يجري فيها إلى المساجد وكان عليهم أن ينقلوا إلى الأسواق أخلاق المساجد كما يفعل من كان قلبه معلقاً بالمساجد. – والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات – ——– 1- متفق عليه 2- إشارة إلى ما تدل عليه لام التمليك في قوله تعالى :”لله”. 3- لقولهصلى الله عليه وسلم : أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فإيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة. متفق عليه 4-  القصة بتفاصيلها في تفسير ابن كثير لهذه الآية من سورة التوبة 5- رواه مسلم عن ابي هريرة.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>