أيهما يكون تبعا للآخر الإسلام أم الأهواء؟


ذ. محمد شركي

 1- الربيع العربي  : من السياسة إلى الدين :

في خضم الجدل السياسي والإيديولوجي الناتج عن الربيع العربي الذي  أوصل أحزابا إسلامية إلى مركز القرار في بعض الدول العربية، نشأ جدل مواز يمكن تسميته بالجدل العقدي أو الديني. والوضعية الراهنة اليوم في الوطن العربي شبيهة بوضعية ما بعد الفتنة الكبرى في التاريخ الإسلامي، حيث تحول الصراع السياسي إلى صراع عقدي  وديني،

وتسلحت كل فرقة سياسية  بسلاح عقدي تقارع به خصومها . أما ما يوازي الفتنة الكبرى حاليا، فهو ثورات الربيع العربي، وأما ما يوازي الفرق السياسية  حاليا، فكل الأطراف المتصارعة من أجل جني ثمار الربيع العربي  تماما كما كان الصراع بعد الفتنة الكبرى من أجل الخلافة والسلطة.

 

2-   حالة المغرب وجدل السياسة والدين :

فإذا انطلقنا من وضعية المغرب السياسية  على سبيل المثال لا الحصر نجد أن الربيع المغربي أفرز صراعات سياسية  خصوصا بعد الاستحقاقات الانتخابية التي رجحت كفة حزب إسلامي  على غيره من الأحزاب المنافسة له.

فبمجرد ظفر هذا الحزب في الانتخابات -والذي وعد  في برنامجه الانتخابي بمحاربة الفساد- بثقة الشعب، انبرت له مختلف الأحزاب يمينية  ويسارية تصرح منذ أول يوم بأنه لا يصلح لتسيير زمام الأمور أصلا. ولقد بدأت هذه الأحزاب حملتها ضد هذا الحزب الفائز من فكرة التخويف من أصوليته  وتشدده، وانتهت إلى فكرة التشهير بقلة خبرته  وفشله قبل أن يستوفي حصته القانونية  في تدبير أمور البلاد.

وموازاة مع الصراع السياسي المحتدم  بين الحزب الفائز والأحزاب  الخصمة  نشأ جدل عقدي وإيديولوجي.

فالأحزاب المنافسة للحزب الفائز تعتبر الإسلام الذي هو دعامة هذا الحزب الفائز رصيدا مشتركا لا يجب أن يستأثر به حزب دون آخر، علما بأن هذه الأحزاب  ترفع شعارات ليبرالية  وعلمانية  ويسارية، ولا ترفع شعارا دينيا، ومع ذلك  تطالب بنصيبها في المشترك الديني كما تسميه، وهي حيلة سياسية من أجل تعطيل شعار الحزب الفائز الذي كان وراء فوزه عامل الإسلام. وهكذا نشأ عندنا إسلام مع وقف التنفيذ لدى الأحزاب الليبرالية والعلمانية، وإسلام مع التنفيذ  لدى الحزب الفائز ومن ينحو نحوه من جماعات وأفراد. وصار بالإمكان الحديث عن مسلم مغربي ممارس وآخر غير ممارس كما هو الشأن بالنسبة للمسيحي الممارس وغير الممارس  في بلاد العلمانية الغربية.

ومن تداعيات الصراع السياسي  الذي تحول إلى صراع عقدي ظاهرة إثارة القضايا الدينية من قبيل الحديث عن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى عظماء عصره وما تحمله من فكر إرهابي!! ومن قبيل الحديث عن عصمة الأنبياء وإنكارها!! ومن قبيل الحديث عن الفتح الإسلامي الذي يعتبره المجادل العلماني مجرد غزو بغرض السبي  والغنائم!! ومن قبيل الحديث عن حرية الجنس، ومن قبيل إنكار  تحريم المحرمات كما هو الشأن بالنسبة للقمار أو اليناصيب، ومن قبيل إباحة المهرجانات الخليعة والمتهتكة كما هو الشأن بالنسبة  لمهرجان موازين.

3- ما هو أساس الخلاف؟ :

ويمكن اختزال الصراع العقدي المترتب عن الصراع السياسي  والإيديولوجي في المغرب بعد ربيعه في الإشكالية  التالية : أيهما يكون تبعا للآخر الإسلام أم الأهواء؟.

ولحل هذه الإشكالية لا بد من استعراض  وجهة نظر الإسلام ووجهة نظر الأهواء. فمنطق الإسلام هو أن الناس لا يعتبرون تحت مظلته  إلا إذا كانت أهواؤهم  تبعا لما جاء به  كما ينص على ذلك الحديث  النبوي الشريف “لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به))، ومنطق الأهواء  هو ما عبر عنه الوحي في قوله تعالى : {قالوا يا شعيب أصلواتك تامرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء}. فهذا النص القرآني  يعكس الصراع بين الدين والهوى  حيث يريد كل منهما أن  يكون الآخر تبعا له. وهذا ما يحدث اليوم في الوطن العربي ما بعد الربيع، والمغرب جزء من هذا الوطن حيث  يريد العلمانيون والليبراليون عندنا أن  يكون الإسلام تبعا لأهوائهم، لهذا فكروا في استراتيجية إعادة طرح القضايا الإسلامية  للجدل من جديد على اعتبار أن وضعها لا يناسب  الأهواء العلمانية والليبرالية. ولهذا ارتأوا أن يعيدوا قراءة النصوص المقدسة  على ضوء أهوائهم.

وبسبب هذا قامت الضجة الأخيرة  ضد  تذكير عالم بتحريم القمار بذريعة أن اليناصيب -وهي  قمار- تعتبر مصدر عيش العديد من الأسر، لهذا يجب أن  يتبع النص المحرم للقمار الهوى المحل له. وبناء على هذا  يمكن مراجعة كل المحرمات  قياسا على القمار  بنفس الذريعة، فعندما  يكون الزنا أو الخمر أو غيرهما أيضا مصدر رزق العديد من الأسر، فيجب إعادة النظر في التحريم تبعا للأهواء. وعندما توجد ذرائع الأهواء أيضا المانعة للعبادات من صلاة وصيام وزكاة وحج  يمكن أيضا تعطيلها خصوصا إذا كانت هذه العبادات تحرم المنكرات  والفواحش.

وعلى غرار منطق  قوم  شعيب  يأتي منطق  قوم العلمانية والليبرالية عندنا، وهو منطق  يفرق بين الصلاة  والمعاملات المالية، ويفصل بينها  فصلا تاما.

والملاحظ أيضا أن الفرق العلمانية والليبرالية التي  انكبت على الجدل العقدي الموازي للجدل السياسي  بسبب الربيع العربي تعتمد استراتيجية التجاسر على المقدس مع محاولة التطبيع مع هذا التجاسر من أجل  الإعداد  لتسويق أصول العقائد العلمانية والليبرالية، ومن ثم تسويق أصول الفقه العلماني والليبرالي الموازي  لها. ويمكن رصد الصراع العقدي بين ما هو إسلامي وما هو علماني وليبرالي حتى على مستوى الأقلام المشتغلة  بالكتابة

الصحفية حيث  تدور حول بعض القضايا سجالات  عقدية  من قبيل السجال الدائر حول مهرجان موازين الذي  قدم تحت شعار علماني أو ليبرالي  مفاده التثاقف  أو المثاقفة  مع الغرب من أجل التطبيع مع التهتك والانحلال الخلقي  باسم الفن. وما كاد أصحاب  العقيدة الإسلامية  يعبرون عن امتعاضهم  من التجاسر على القيم الأخلاقية باسم الفن حتى قامت دنيا العلمانيين والليبراليين ولم تقعد متهمين  الإسلاميين  بالتعصب  والانغلاق ورميهم بكل وصف مشين. وقد عكست بعض  الكتابات الصحفية هذا الصراع بشكل جلي.

وخلاصة القول  إن الإجابة عن السؤال أيهما  يكون تبعا للآخر الإسلام أم الأهواء؟ هي الكفيلة  بتحديد  الهوية  في ظل  الصراع السياسي المتطور إلى صراع عقدي بسبب تحويل مسار الربيع العربي ولي عنقه ليكون فتنة كبرى بدل عن آن يكون فرصة كبرى للتحرر والانعتاق والتأسيس السليم للذات الحضارية للأمة.

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>