مع كتاب الله عز وجل – رسالات الهدى الـمنهاجي في سورة “الذاريات”(2)


أقسام الله تعالى على ثبوت اليوم الآخر : دلالات ومقاصد

قال الله جلت حكمته : {والذاريات ذروا فالحاملات وقرا فالجاريات يسرا فالمقسمات أمرا انما توعدون لصادق وإن الدين لواقع والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يوفك عنه من افك}

إن هذه الآيات المركزة القصيرة، لهي أشبه بطلقات نارية متتابعة شديدة، تخرق صدر الشيطان، المحيط بقلب الكافر الجاحد، يملؤه بالتمرد والعصيان، ويلقي فيه وساوس الشك والتردد والبهتان وإنها لأشبه أيضا بصفعات قوية أليمة، تضرب وجه الإنسان الغافل الثقيل، الذي لم يزل يغط في خريف غفلته، وقدمه توشك أن تزل به من على شفا خطر عظيم. وإن التالي للآيات بقلب حي يقظ، يتلقاها قَسَمًا عظيما من الرحمن، بل أقساما عظيمة متتالية، ليكاد يشعر برياح الحق تعصف به عصفا، بل تكاد تذرو ذرات جسمه في الفضاء ذروا، وإن الفزع ليهز دقات قلبه هزا، وإن لمشهد الرياح العاصفة وهي تذرو الأشياء ما بين الأرض والسماء، ومشهد الغيوم الزاحفة المحملة بأثقال الأمطار، ومشهد السفن السائرة – ونحوها من الناقلات – تمخر عباب البحار، ومشهد الملائكة وهي منهمكة في نشاطها اليومي في السماء، تقسم الأرزاق بين العباد، وتوزع مكاييل الأمطار على الأقطار، وفق ما استنسخته من مكتوب اللوح المحفوظ، فتسوق الرياح على تلك المقاييس وبتلك الموازين، ثم يكون ما قدر الله للناس في الأرض، من ثمار وطعام وأرزاق، ثم تجري حركة التجارة بين الشعوب والبلدان، عبر الناقلات الجاريات في البحر، وفي البر، وعبر الطائرات العملاقة الضاربة في أعالي الفضاء، محملة بأطنان الأثقال، فهذه وتلك جميعا مشمولة بعبارة {فالجاريات يسرا}، كلها تجري يسرا بالأرزاق، لتوصلها إلى محالها المقدرة لها تقديرا، في علم الله الأزلي.

إن الصورة رغم أنها مكونة من أربعة عناصر مختلفة، إلا أنها تتركب في مشهد كلي واحد، مشهد منسجم ينبض بالحركة والقوة والحياة، ويوحي بأن الله جل جلاله قد أحاط بهذا الكون، علما وقدرة ورعاية وتدبيرا. وأن حوادث هذه الأرض وما يجري فيها، إنما هي نتيجة وانعكاس لما يقسم في السماء ويجري فيها وبذلك استحق هذا المشهد الكلي العظيم، بعناصره الأربعة وقواه المختلفة أن يكون مقسما به من لدن الرحمن على مقصود السورة وهدفها الأساس، ألا وهو التحقق الواقع لا محالة ليوم الدين. ذلك أن المتحكم في الأرض بهذه الحركات القوية الجبارة، الجارية بين السماء والأرض تقديرا وتدبيرا، هو متحكم في مآل ذلك كله، إفناء وتدميرا، ثم بعثا ونشورا ولذلك كان جواب القسم : {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع} فذلك الوعد الموعود، الذي جاءت الرسل بخبره من عند الله، وذلك الدين المنتظر يومُهُ وساعتُه – والدين هنا : هو بمعنى الجزاء وتعاطي الحساب – كل ذلك وعد صادق، وأمر واقع لا محالة. صادق كصدق الرياح إذا هبت من حولكم، والسحب إذا أمطرتكم بوابل المياه، وكصدق الأرزاق إذا وصلت إلى أفواهكم، عبر آلاف الأميال التي تقطعها السفن والناقلات البرية والجوية، مصدقة بذلك قضاء الله وقدره، ولمقاييس الملائكة المقسمة للأرزاق على ما قدر الله وقضى. ومن ذا قدير على حبس الريح العاصف إذا ثار؟ أو التحكم في غضب الإعصار؟ أو منع الغيم الثقيل عن الإمطار؟ أو منع وصول مقادير الأرزاق؟ إذن، فليمنع وقوع القيامة إذا قامت أو ليدفع عن نفسه الموت إذا استطاع كلا كلا {إنما توعدون لصادق وإن الدين لواقع}. وتنهال صفعة أخرى على وجه الإنسان، الإنسان الجاحد المعاند، يتصدرها قَسَم جديد من الرحمن بأمر عظيم، يتبعه جواب منه تعالى، يتوجه مباشرة بكاف الخطاب، إلى الكفرة الفجرة، تحطيما لما يلفقونه من تصورات كاذبة، ونظريات جاهلة، مادتها ونسيجها الدجل والبهتان، فيقول جل جلاله : {والسماء ذات الحبك إنكم لفي قول مختلف يوفك عنه من افك} فهذا القسم الجديد من الرحمن، يعرض جانبا عظيما من بديع صنع الله ذي الجلال، إنها السماء ذات الحبك، أي ذات الجمال والبهاء، والحسن والاستواء، على قول ابن عباس وجمهور التابعين(1)، من الحَبْك وهو : الإحسان، والإحكام، والإتقان في صناعة أنسجة الثوب وغيره. والحُبُك مفرده حبيكة، وهي : نقوش الريح على الرمل، وما تتركه على كثبانها من خطوط طبيعية والتواءات جميلة. وكذلك الماء الكثير الساكن، إذا مرت به الريح تجعله حبائك وحُبُكا، أي أنها ترسم على سطحه تموجات صغيرة ذات أشكال بديعة، تسمى حبك الماء، وحبائك الشعر : تدرجه إذا مُشط(2).

فمن هنا وُصفت السماء بأنها ذات الحبك، وذلك بما جعل الله فيها من أفلاك ومجرات، وكواكب عظيمة، ونجوم وسيارات، وبما جعل في ذلك كله من توازن خارق، يحير العقول ويسلب الألباب ثم بما لها من تجليات الجمال والجلال تختلف على مدار الفصول، وعلى اختلاف الليل والنهار. فلكل لحظة في السماء تجل من الحسن، ينسيك بهاؤه بهاء التجلي الذي كان قبله، هذا على قدر ما تدركه العين الناظرة. وأما من طالع مقولات علم الفلك الحديث، وأخبار ما تلتقطه المراصد الفلكية الكبرى من الحقائق العلمية الكونية، فإنه يزداد انبهارا بهذه الحبك العجيبة ذلك أن تصور الإنسان لا يبقى حبيس ما تلتقطه العين المجردة، بل يمضي به خياله في تتبع مواقع النجوم الضاربة في عمق السماء، بعيدا بآلاف السنوات الضوئية ويتصور المدارات البعيدة، ويتتبع بذهنه حركة النجوم والمذنبات السيارة التي لا يكون موعد مرورها قرب مجرة الأرض، إلا بعد سبعين سنة وأكثر، تمر خاطفة، ثم تمضي بعد ذلك في فلكها الكبير، ضاربة في تيه الكون المجهول نجوم وكواكب ومذنبات تعد بملايين الملايين، كلها تجري في أفلاكها بمدارات متداخلة شتى ومع ذلك لا تصطدم ذرة منها بذرة وتبقى حبك السماء إعجازا أبديا للبشرية – مهما تطورت معارفها – وتحديا يخاطبها بعظمة الخالق الكبير المتعال. تلك ومضة من مضمون القَسَم بالسماء ذات الحبك، وأما جوابه فهو قوله تعالى : {إنكم لفي قول مختلف يوفك عنه من افك} والقول المختلف هو الكلام المتناقض المتضارب المضطرب، الذي لا يستقيم على ميزان سليم، ولا استدلال مطرد. كما في قوله تعالى : {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا}(النساء : 82) بمعنى لوجدوا فيه تناقضا كثيرا واختلاطا واضطرابا.

ومن بديع التقابل في هذه الآيات – من الذاريات – أنه تعالى أقسم بجمال السماء، وحسن انتظامها، وتوازن نجومها، ودقة ترتيبها، وحبك أفلاكها ومواقعها، أقسم بذلك على اضطراب مقولات الكفار، وتناقض نظرياتهم، وفساد أحكامهم وإذا حكم الخبير في جمال الصنع والإبداع على فساد شيء واختلاطه فهو حجة دامغة فكيف إذا أقسم بحسن صنعه وبديع حبكه؟ نعم {إنكم لفي قول مختلف يوفك عنه من افك} أي إنكم لفي قول متناقض مضطرب، لا يستقيم. وإنما {يوفك عنه من افك}، بمعنى : يضل عن حقيقته وينخدع به، من سبق الضلال إلى قلبه، بما سكنه من الهوى، فأعمى الله بصيرته تقول : “أُفك الرجل يوفك”، إذا راج عليه الإفك وانخدع به. والإفك : هو الكذب الغليظ، والافتراء العظيم، والبهتان المبين. فإذا صار معتقدا لصحته الموهومة فهو مأفوك. و بذلك يضلل عن حقائق الإيمان، وعن حقيقة الحشر والمعاد، فتحطمه الشكوك والظنون، بما سكن قلبه ابتداء من هوى وضلال(3). فكان خلاصة هذه الآية أنه : يؤفك بالباطل عن الحق، من أُفِك قبل ذلك بهواه وشهواته. ويؤخذ منها – بمفهوم المخالفة – أن المؤمنين يبصرون الحق حقا ويرزقون اتباعه، ويبصرون الباطل باطلا ويرزقون اجتنابه، بما جعل الله في قلوبهم من الهدى واليقين.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
————
1- ن. تفسير الآية عند الطبري وابن كثير.
2- ن. مادة : “حبك”، في الصحاح، واللسان، والقاموس المحيط
3- جاء في كتاب “المحيط في اللغة” للصاحب بن عباد : (الإفك : الكذب، أفك يَافك أفكا، ومنه قوله جل جلاله : {يوفك عنه من أفك}. والأفائك : جمع الأفيكة للكذب. ورماه الله بالأفيكة : أي بالداهية المعضلة. وأفكت فلانا عن هذا الأمر: أي صرفته عنه بالكذب والباطل). مادة : “أفك”. وفي لسان العرب : (الإفك : الكذب، والأفيكة كالإفك. أفَك يَأفِك، وأَفِك، إفكا، وأُُفُوكا، وأَفْكًا، وأَفَكًا.(…) والأفاك : الذي يأفك الناس، أي يصدهم عن الحق بباطله.(…) وأُفك الرجل عن الخير : قُلب عنه وصُرف)، مادة : “أفك”.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>