خطبة منبرية – فـي مـولـد رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم


الخطبة الأولى
عباد الله: كلما حل بنا شهر ربيع الأول، إلا وحلت معه تلك الذكرى العظيمة، لذلك الحدث التاريخي البهيج، الذي تحولت معه حياة البشرية جمعاء، ففي ذلك العام الذي اشتهر بعام الفيل، وفي شهر ربيع الأول منه الذي عُرف بربيع الأنوار، وفي ليلة من إحدى لياليه، طلع فجر النبوة المحمدية بميلاد سيد الخلق وحبيب الحق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: >أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي حين حملت بي أنه خرج منها نور أضاء لها قصور الشام<، ومعنى هذا أن مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم استجابة لدعوة خليل الله سيدنا إبراهيم وابنه سيدنا إسماعيل عليهما السلام، بعدما سألاه أن يبعث في ذريتهما رسولا منهم، وقد أخبر بذلك الحق سبحانه وتعالى في كتابه العزيز، قال تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك، وأرنا مناسكنا وتب علينا، إنك أنت التواب الرحيم، ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، إنك أنت العزيز الحكيم}. وبمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تتحقق بشارة نبي الله عيسى عليه السلام الذي قال عنه الحق سبحانه وتعالى:”وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد”. لقد وُلد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في بيت شريف النسب، رفيع القدر، عظيم الحسب، من أبيه عبد الله بن عبد المطلب، وأمه آمنةَ بنتِ وهب التي لما حملت به صلى الله عليه وسلم أتاها آتٍ فأخبرها أنها حملت بسيد هذه الأمة، فإذا وُضع في الأرض فقولي: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد، وسميه محمدا، والتي لم تجد أثناء حملها به صلى الله عليه وسلم ما تجده الحوامل عادة من الوهن والضعف والتعب، فما رأت من حمل قطُّ كان أخف عليها ولا أيسر منه، كما أخبرت أن البيت امتلأ نورا عند ولادته، ورأت أن النجوم تدنو منه حتى كادت تقع عليه، ثم إنه صلى الله عليه وسلم قد وُلد مقطوع السّرّة، مختونا، لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه المواليد عند ولادتهم، وهذه كلها علامات وإشارات تدل على علو شأنه، وارتفاع قدره، وسمو مكانته، وآيات ودلائل وأمارات تنبئ برسالته ونبوته، ولقد صحبته هذه الإشارات والعلامات منذ ولادته وبداية نشأته، حيث ظهرت الرعاية الربانية والعناية الإلهية به، فمنحه الله عز وجل من البركات منذ صغره ونعومة أظفاره، وبارك الله فيه وفيمن حوله، حتى عمت هذه البركة كل من عاشره أو صاحبه أو اقترب منه، ولنتذكر جميعا قصة رضاعه صلى الله عليه وسلم، وما صاحبها من رحمات وبركات، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على عناية الله عز وجل بنبيه، ورعايته لرسوله، فقد نشأ في حرزه ، وقد شب في كنفه، وهو الذي تولى تربيته وتنشئته، حتى يكون في مستوى تحمل الرسالة وتبليغ الأمانة، وليكون ذلك الإنسان الكامل الذي اختاره واصطفاه واجتباه، وليكون خير الخلق وسيدهم، وليكون مثلهم وقدوتهم، وليكون ذلك النموذج البشري الذي أتم الله له خَلقه، وأكمل له خُلقه، حتى يستحق كل المدح والثناء الخالد في كتاب الله عز وجل : {وإنك لعلى خُلق عظيم}، وحتى يكون ذلك الشخص الذي يعترف بالفضل ويقر بالنعمة، فيقول: >أدبني ربي فأحسن تأديبي.

الخطبة الثانية
عباد الله: إن من النعم العظمى والمنن الكبرى التي تنعم الله بها على الإنسانية، وتكرم بها على البشرية، هي نعمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي بعثه الله تعالى فينا رحمة للعالمين، وأرسله بالهدى ودين الحق لتنوير العقول وتطهير القلوب وتزكية النفوس، وإخراج الناس من ظلمات الكفر والشرك والإلحاد والضلالة والجهالة، إلى نور الهداية والإيمان والتوحيد، قال تعالى: {لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}، وقال عز وجل: {هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}، وقال سبحانه: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون}، وقال سبحانه: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، فما أحوجنا ونحن نتهيأ لإحياء ذكرى مولده صلى الله عليه وسلم، إلى أن نجعل حياته وسيرته العطرة هي المثل الأعلى الذي يحتذي به كل مسلم، وهي على تقادم العهد بها جديدة في كل عصر، توحي لكل فئة من فئات الأمة بما يبعثها نحو الخير، ويدفع بها إلى ميادين العز والشرف والنصر والخلود، إن إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف، ليس من باب استحضار ماض نسيناه، وإنما نتوقف عندها للتأمل والتفكر والتدبر في السيرة العظيمة التي أنجبت أمة قوية هي خير أمة أخرجت للناس، حيث عرفت فترات ازدهار بفضل اعنزاز أبنائها بدين الإسلام، وتمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهم على يقين أن الحياة الحقة، والعيشة الهنيئة، والسعادة الصادقة، والأمن الذي لا يشوبه خوف ولا قلق، إنما هو العيش في رحاب هذا الدين الحنيف الذي ارتضاه الله عز وجل للإنسانية دينا قويما وصراطا مستقيما، وهو الإقامة الناعمة داخل حدوده وفي ظل تعاليمه. إن ذكرى مولد رسول الله صلى الله عليه وسلم تعيد إلى أذهاننا مسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سخر حياته من أجل إعلاء كلمة الدين وبناء أمة متميزة في عقيدتها وعباداتها وأخلاقها ومعاملاتها، وهو ما يتحتم علينا اليوم إعادة النظر في كيفية تعاملنا مع سيرة هذا الرجل العظيم الذي لم يعرف التاريخ مثله. إن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينبغي أن تكون مستقرة في نفوسنا، راسخة في أذهاننا، حاضرة معنا في حال من أحوالنا نتمثلها ونقتدي بها حنى نكون قريبين من القرآن الكريم وسنة النبي الأمين، مرتبطين بالسيرة ارتباطا قويا عميقا يقوم على التقويم المستمر لنفوسنا والإصلاح الدائم لأحوالنا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أوضح بسنته وسيرته، أصولا وقواعد، هي أصح وأكمل للمصالح العامة في جميع النواحي الروحية والمادية، والأدبية والاجتماعية، والسياسية والاقتصادية، وفي كل ميادين الحياة. وإن ما حصل من خلل في حياة المسلمين اليوم، وما يلحقنا من مصائب ونكبات، وما يصحبنا من تخلف وتدهور، هو جزاء ما قدمت أيدينا، ونتيجة إعراضنا عن تعاليم ديننا، وإذا كان لميلاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من وقع في نفوسنا، فما علينا إلا أن نعتز بديننا، ونتمسك بقيمنا، ونجاهد لأجل تحويل كل القيم والتعاليم والمبادئ الإسلامية إلى واقع الحياة ودنيا الناس بثقة واطمئنان وثبات ويقين، قال تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
ذ. إدريس اليوبي

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>