{والله يعصمك من الناس} 1


آية كريمة وبشرى عظيمة ووعد صادق من الله العزيز الحكيم لرسوله صلى الله عليه وسلم وضمانة إلهبة له بحفظه وكلْئِه وعصمته من الناس وتأمين على حياته وسلامته من أعدائه، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقت حرج وظرف عصيب من حياته صلى الله عليه وسلم لطمأنته على نفسه ليتفرغ لأداء رسالته وهو آمن مطمئن لا يخاف أحداً ولا يخشى إلا الله الذي أمره بتبليغ رسالته وضمن له عصمته من الناس {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك، وإن لم تفعل فما بلغت رسالاته والله يعصمك من الناس}. والآية إخبار بعصمة دائمة وحماية مستمرة لا نهاية لها ولا غاية تنتهي عندها لأنها جاءت في صيغة جملة اسمية وهي تفيد الثبوت والدوام كما يقول علماء البلاغة، والفعل المضارع فيها يفيد التجدد والاستمرار، وقد أنجز الله له ما وعده به من العصمة من الناس في مواطن كثيرة، ونجاة من مؤامرات عدة، ومحاولات قام بها اليهود والنصارى المجوس والمشركون قبل البعثة وبعدها، دبروها لخطفه أو قتله وفي كل مرة يبوؤون بالفشل الذريع، وتنتهي محاولاتهم في بعض الأحيان بإسلام من دبر قتله، والمتتبع للسيرة النبوية الشريفة يتأكد من هذه الحماية الإلهية والعناية الربانية لنبيه صلى الله عليه وسلم منذ ولادته إلى وفاته وبعد وفاته :
< فقد عصمه وهو عند مرضعته حليمة السعدية عندما أراد نصارى الحبشة أخذه منها والذهاب به إلى الحبشة، روى ابن هشام عن ابن إسحاق أن نفرا من الحبشة نصارى رأوه مع مرضعته حين رجعت به بعد فطامه، فنظروا إليه وسألوها عنه وقلبوه ثم قالوا لها : لنأخذن هذا الغلام فلنذهبن به إلى ملكنا وبلدنا، فإن هذا الغلام له شأن نحن نعرف أمره، فلم تكد تنفلت منهم<(1).
< وعَصَمَه مرة أخرى من نصارى أرادوا الفتك به بعدما عرفوه وعرفوا صفته، فقيظ الله من يحميه منهم ويردهم عنه، يقول ابن هشام عن نصارى سماهم رأوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى بحيرى فأرادوه فردهم عنه بحيرى وذكرهم الله وما يجدونه في الكتاب من ذكره وصفته وأنهم إن أرادوه لم يخلصوا إليه.. فتركوه وانصرفوا عنه(2).
< وعصمه حين أقسم أبو جهل ليشدخن رأسه بأضخم صخرة يقدر على حملها ويلقيها على رأسه إذا سجد، فرد الله كيده فما أن دنا حتى رجع على عقبية خائفا مذعورا مما رآه. فقد روي أنه عندما يئس المشركون من استجابة الرسول صلى الله عليه وسلم قام أبو جهل يا معشر قريش إن محمداً أبى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آبائنا وتسفيه أحلامنا وشتم آلهتنا، وإني أعاهد الله لأجلسن غدا بحجر ما أطيق حمله فإذا سجد في صلاته فضخت به رأسه، فأسلموني بعد ذلك أو امنعوني، ولما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل الحجر ثم أقبل نحوه حتى إذا دنا منه رجع منهزما منتقعا لونه مرعوبا قد يبست يده على حجره حتى ىقذف الحجر من يده وقام إليه رجال من قريش فقالوا له :4 ما لك يا أبا الحكم؟ قال : قمت إليه لأفعل به ما قلت لكم البارحة، فلما دنوت منه عرض لي دونه فحل من الإبل، لا والله ما رأيت مثل هامته ولا مثل قصرته ولا أنيابه لفحل قطُّ، فهم بي أن يأكلني(3). ولم يكن ذلك الفحل إلا جبريل عليه السلام كما قال صلى الله عليه وسلم >ولو دنا لأخذه<.
< وعصمه مرة رابعة من عمر بن الخطاب قبل إسلامه حين عزم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، وتوشح سيفه وخرج إليه يريد قتله، فسخر الله من اعترضه وهو في طريقه ويخبره بإسلام أخته وزوجها فانشغل بأمرهما لينتهي الأمر بإسلام عمر ونجاة الرسول صلى الله عليه وسلم من شر ما أراده به(4).
< وعصمه مرة خامسة حين تآمرت عليه قريش في دار الندوة وطوقوا بيته ليلة الهجرة وهم شاهرون سيوفهم ينتظرون خروجه ليضربوه ضربة رجل واحد ويتفرق دمه كما رسمه لهم الشيطان في دار الندوة فأعمى الله أبصارهم وخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته يمشي بين صفوفهم ويضع التراب على رؤوسهم وهو يتلو قوله تعالى : {يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم فهم غافلون لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يومنون إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون}(يس : 1- 8)(5).
< وعصمه وهو في طريقه مهاجرا حين أراد سراقة بن جعشم اللحاق به ليرده إلى قريش أملا في الحصول والفوز بمائة ناقة التي جعلتها قريش لمن يرده إليهم فأنقذه الله، وعثرت به فرسه المرة تلو المرة وسقط عنها وغاصت أرجل فرسه فلم يجد بدا إلا يناديهم ويؤمنهم ويطلب إليهم كتابا يكون آية بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم(6).
< وعصمه وهو في الغار ليس معه إلا أبو بكر والمشركون يطوفون بالغار ويحومون حوله فأعمى الله أبصارهم فلم يرده أحد منهم، وفي ذلك يقول الله تعالى : {إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}(التوبة : 40).
< وعصمه حين تآمر صفوان بن أمية وعمير بن وهب على اغتياله وتكفل صفوان لعمير بديونه التي عليه ونفقة عياله فخرج عمير يريد النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما شحذ سيفه وسممه فأطلع الله تعالى نبيه على ما جرى بينهما وما اتفقا عليه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عميرا بما قدم من أجله وما بينه فلم يسعه إلا أن يعلن إسلامه ويعترف بما جاء من أجله من اغتيال النبي صلى الله عليه وسلم انتقاما لقتلى بدر(7).
< وعصمه حين تآمر بنو النضير على الغدر به وإلقاء صخرة على رأسه من أعلى البيت الذي كان مستندا إلى جداره بعدما وعدوه خيرا في مساعدته في دية ليطمئن إليهم ويثق بهم حتى يتمكنوا من تنفيذ مخططهم بنجاح، ولكن الله أعلمه بمكرهم وما دبروه لاغتياله فقام من حينه ورجع إلى المدينة(8). وأنزل الله تعالى في ذلك قوله في سورة المائدة : {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همت طائفة أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم}(المائدة : 12). < وعصمه حين أراد شيبة بن عثمان الغدر به يوم حنين وجاءه من خلفه ليقتله فقذف الله في قلبه الرعب فلم يقدر على قتله، يقول شيبة عن نفسه : قلت اليوم أدرك ثأري، اليوم أقتل محمدا، قال فأدرت برسول الله لاقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذلك فعلمت أنه ممنوع مني(9).
< وعصمه حين استغل أحد الأعراب فرصة انعزال الرسول صلى الله عليه وسلم عن أصحابه وذهابه لقضاء حاجته أعزل دون سلاح فانحدر إليه من الجبل ورفع السيف فوق رأسه وقال له : من يمنعك مني اليوم؟ فقال : الله، فأهوى بسيفه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليضربه فدفعه جبريل عليه السلام فسقط وسقط السيف من يده كما قال الواقدي أو سقط لزلقة زلقها كما قاله غيره فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم السيف وقال له من يمنعك مني؟ فقال لا أحد فدفع إليه سيفه وعفا عنه بعد أن أعطاه عهدا أن لا يقاتله ولا يعين أحدا على قتاله(10)، وروى البخاري هذه القصة عن جابر فقال : إنه غزا مع رسول الله قبل نجد فلما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم قفل معه فأدركتهم القافلة في واد كثير العضاه فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق الناس في العضاة يستظلون بالشجر ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلق بها سيفه، قال جابر : فنمنا نومة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعونا فجئناه فإذا عنده أعرابي جالس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إن هذا اخترط سيفي وأنا نائم فاستيقظت وهو في يده صلتاً، فقال لي : من يمنعك مني؟ قلت : الله، فها هو جالس، ثم لم يعاقبه رسول الله صلى الله عليه وسلم<(11).
< وعصمه حين تآمر المنافقون على قتله وهو راجع من غزوة تبوك واتفقوا على اعتراض ناقته في العقبة لتلقيه من على ظهرها إلى قعر الوادي فأطلعه الله على ما هموا به فصاح في وجوههم فولوا مدبرين ونزل في ذلك قوله تعالى : {يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوا}(التوبة : 75)(12).
< وعصمه حين تآمر عليه عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة على قتله وتوجها إلى المدينة لاغتياله فنجاه الله منها وأهلكهما، وأرسل على أربد صاعقة فأحرقته وأرسل على عامر عدة فقتله. قال ابن عباس رضي الله عنهما : أقبل عامر بن الطفيل وأربد بن ربيعة العامريان يريدان النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد جالس في نفر من أصحابه فدخلا المسجد فاستشرف الناس لجمال عامر وكان أعور وكان من أجمل الناس فقال رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هذا يا رسول الله عامر بن الطفيل قد أقبل نحوك. قال : فدعه، فإن يرد الله به خيرا يهده. فأقبل حتى قام عليه فقال مالي إن أسلمت؟ فقال : لك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، قال : أتجعل لي الأمر من بعدك؟ قال : ليس إلي ذلك. إنما ذلك إلى الله يجعله حيث شاء، قال : أتجعلني على الوبر وأنت على المدر؟ قال : لا. قال : فما تجعل لي؟ قال : أجعل لك أعنة الخيل تغزو عليها في سبيل الله، قال : أو ليس لي أعنة الخيل اليوم؟ قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان عامر أومأ إلى أربد إذا رأيتني أكلمه فدر من خلفه واضربه بالسيف، فجعل يخاصم النبي ويراجعه فاخترط أربد من سيفه شبرا ثم حبسه الله فلم يقدر على سله وأرسل الله عليه صاعقة فأحرقته وولى عامر هاربا، وقال يا محمد دعوت ربك على أربد حتى قتلته، والله لأملأنها عليك خيلا جردا وفتيانا مردا فقال عليه السلام : يمنعك الله وأبناء قيلة يعني الأوس والخزرج، فنزل عامر بيت امرأة سلولية وأصبح وهو يقول والله لئن أصحر لي محمد وصاحبه -يريد ملك الموت- لا نفذتهما برمحي فأرسل الله عليه ملكاَ فلطمه بجناحه فأرداه في التراب وخرجت على ركبته غدة عظيمة في الوقت، فعاد إلى بيت السلولية وهو يقول : غدة كغدة البعير وبيت في بيت سلولية، كم ركب فرسده فمات على ظهره(13).
< وعصمه حين أراد يهودية قتله فأهدت له شاة مسمومة وبالغت في تسميم الذراع التي تعجب الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكثرت فيها من السم وما أن تناول الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لفظها وقال : إن هذا العظم ليخبرني أنه مسموم وأكل منها أحد أصحابه فمات من حينه، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عصمه الله من أكلها فاستدعاها الرسول صلى الله عليه وسلم فاعترفت فعفا عنها(14).
د. محمد التاويل

1- سيرة ابن هشام 139/1.
2- سيرة ابن هشام : 193/1.
3- سيرة ابن هشام 318/1- 319.
4- نفسه المرجع.
5- نفس المرجع 95/2.
6- نفس المرجع 102/2.
7- سيرة ابن هشام 306/2.
9- الجامع لأحكام القرآن 75/6- سيرة ابن هشام 191/3.
10- سيرة ابن هشام 73/4.
11- البخاري بشرح الفتح 426/6.
12- مختصر ابن كثير 157/2.
13- الجامع لأحكام القرآن 195/9.
14- سيرة ابن هشام 390/3.


اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>

One thought on “{والله يعصمك من الناس}

  • يوسف كرواوي

    اللهم ارحم شيخي الفاضل سيدي محمد التاويل رحمة واسعة واجعل مقامه مع النبيئين والصديقين والشهداء وحسن اولائك رفيقا فنعم المربي ونعم العالم فلقد رفعه الله بعلمه وتواضعه فلقد كان رحمه الله من أحرص العلماء في الدفاع عن أحكام الشريعة الإسلامية وبرز هذا جليا حين مراجعة مدونة الأحوال الشخضية باعتباره أحد أعضاء اللجنة الملكية المعينة لهذا الغرض كما كنا نلمس ذلك في محاضراته التي كان يقدمها لنا ونحن طلبة بالكلية أو تلاميذ بالثانوية والله حين أتذكره أو أرى صورته يخشع قلبي وتدرف عيني من شدة حبي لهذا الرجل الذي نذر حياته لطلب العلم وتدريسه ومدارسته فنم قرير العين شيخي الفاضل فلقد أديت رسالتك العلمية على أحسن وجه فطوبى لك فلقد تركت من العلم ما تنتفع به الأجيال فرجاء من كل متعلم او مستمع لدروسكم أو قارئ لكتبكم الدعوة لكم بالعفو والمغفرة والرحمة