في الذكرى (537) لنكبة الأندلس (2 ربيع الأول سنة 897هـ): الأندلس الحضارة الضائعة والتاريخ الضائع


توفي عبد الملك بن محمد الملقب بالحاجب المظفر عام 399 هـ، وتولى بعده أخوه عبد الرحمن الملقب “بشنجول”، الذي نشأ حياة ترف ولعب وهزل، ولم يكن جادا في حياته كأخيه المتوفى، ولم يكن أهلا للإمارة، فأظهر الفساد وأضاع البلاد. ومن أخذ البلاد بغير جهد يهون عليه تسليم البلاد لقد عاشت الأندلس بعد نهاية الدولة العامرية في تمزق وتشتت، وتحولت إلى ممالك وإمارات وصلت إلى 22 إمارة، كل واحدة مستقلة عن الأخرى، وأصبحت فيما يسمى ب”ملوك الطوائف”، واتسع شرخ الخلاف والفرقة بينهم، بل استعان بعضهم بالأعداء في الصراع مع إخوانه، وقدم تنازلات من حصون ومدن لعدوه شريطة التغلب على إخوانه، فباع أرضه وخان أمته ووطنه.
ولله در الشاعر القائل: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد ورغم محاولات الإمام أبي الوليد الباجي -رحمه الله – في دعوة أمراء الطوائف إلى الوحدة لمواجهة الخطر النصراني الذي يهدد وجود المسلمين في الأندلس، لكنهم رغم ترحيبهم به وبدعوته، إلا أن حب الدنيا الذي تربع على عرش قلوبهم أصمّهم وأعمى أبصارهم، وزادت النزاعات بينهم حتى وصلت إلى القتال، مما دفع بأعدائهم للتجرؤ عليهم واستباحة أراضيهم وأعراضهم، فهاجم “فردلند” مدينة بازو فقتل أهلها وانتهك أعراضها وأخذ الباقي أسرى في سنة 449هـ. بل وصلت الخيانة ببعضهم أن رأى إخوانه والعدو يحاصرهم لكنه لم يحرك ساكنا ورفض نصرتهم ومساعدتهم، كما وقع لما راسل المظفر بالله أخاه المؤيد بالله، بل أرسل إلى كل دويلات الأندلس يطلب المدد وفك الحصار عن المسلمين لكن للأسف لم يجبه أحد، بل دل أحد الخائنين العدو الفرنسي على مصدر الماء الذي يروي عطش المسلمين فقطعوه عنهم فاشتد العطش بهم، فاقتحم الفرنسيون الكاثوليك والنورمان النصارى مدينة “بربشتر” فاستباحوها وقتلوا بين 40000 ألفا إلى 100000 من أهلها، وهتكوا الأعراض أمام محارمها وأهلها، وأصبح كل أهل المدينة عبيدا للمحتل بعدها!! وأمام هذا الوضع تحرك الإمام أبو الوليد الباجي يحرض العامة على القيام في سبيل الله وسانده الإمام أبو محمد بن حزم الظاهري، والإمام ابن عبد البر حافظ المغرب وشيخ الإسلام، وابن رشد الجد، وتحرك المقتدر الذي قتل أخوه في المعركة، وأعان تجمع الإمام الباجي الذي بلغ 6000 بالسلاح والمدد، وارتفعت الصيحات بالتكبير والتهليل متوجهين نحو “بربشتر”، فكبدوا العدو خسائر فادحة حيث قتل 1500 من النورمان وأسر الباقي، ومن المسلمين 50 شهيدا، وعادت المدينة إلى المسلمين بسبب توحد صفهم والقيام في سبيل الله صفا واحدا مرصوصا، بعدما فقدوها بسبب الخيانات وحب الدنيا وتفرق وحدتهم. واستمر الصراع بين الطوائف واستمرت الخيانات، وتقديم البلاد للعدو، وكلما مات أمير من أمراء دويلة منها خلفه من هو أسوأ منه، إلى أن منَّ الله على الأندلس بحملة من أمير المسلمين يوسف بن تاشفين رحمه الله، فأعاد لها مكانتها وعزتها في معركة فاصلة لا تقل أهمية عن حطين واليرموك إنها معركة “الزلاقة” في 12 رجب الفرد 479هـ. ولذلك لما قرر ابن تاشفين -رحمه الله- العودة إلى المغرب -حين استجدت هناك أحداث- بعد انتهاء المعركة جمعهم وأمرهم بالوحدة والاتفاق والاعتصام بحبل الله، وأنهم ما غُلبوا قبل الزلاقة إلا لتفككهم وانخذالهم وانفرام حبات عقد وحدتهم. وعاد الأمراء إلى الفرقة والتشتت والخلاف، وعاد العدو “ألفونسو” للتربص بثغورهم، وعاد يوسف ابن تاشفين لحماية الثغور من جديد (482هـ)، فزال الخطر، وولى العدو.. وتشتعل جذوة شهوة الحكم من جديد، فتندلع الصراعات والخلافات بين أمراء الطوائف أصحاب النفوس التي أعماها حب الدنيا وكراهية الموت، وكأني بالشاعر يناديهم فيقول: إلام الخُلف بينكم إلا ما وهذه الضجة الكبرى علاما وفيم يكيد بعضكم لبعض وتبدون العداوة والخصاما.
وكان للأمير المرابطي يوسف بن تاشفين -رحمه الله- الفضل في توحيد إمارات الأندلس بعدما سجن المعتمد بن عباد الذي رفض الانضمام والتوحد، وقاتل بعض الأمراء الذين فضلوا حب الكراسي على توحيد البلاد… ثم واصل تحرير دويلات الأندلس علي بن يوسف بن تاشفين إلى أن توفي سنة (537هـ)، ولم يلبث حكم المرابطين خلفه إلا أربع سنوات ثم انتهى (541هـ). ثم توالى سقوط مدن الأندلس دولة فدولة بسبب الفسق والمجون والفرقة والتخاذل والخيانة… حتى سقطت عاصمة الأندلس قرطبة -في عهد الموحدين- بسهولة بلا مدد ولا نصرة ولا قتال، سلمها أهلها وقدموها على طبق من ذهب للعدو، فضاعت حاضرة العلم والعلماء، وحول مسجدها العظيم إلى كنيسة في أول يوم من دخول العدو إليها، وأجلي أهلها عنها وتفرقوا فيما تبقى من مدن الأندلس (في شوال 633هـ-1235م). ثم توالى تساقط مدن الأندلس بعد انتهاء الحكم الموحدي فيها (سنة 635هـ)، بسبب الاستسلام والركون إلى حطام الدنيا الزائل، والخيانات، وموالاة الأعداء… فسقطت بلنسية (636هـ)، فدانية (641هـ)، فجيان (643هـ)، فشاطبة ومرسية (644هـ)، فإشبيلية (646هـ)، فبلدة النقيرة (815هـ)، سقوط حصن جبل طارق (867هـ)، فسقوط مدينة الحانة (887هـ)، فحصن لوشه (891هـ) فحصن بلش (892هـ)، فمالقة (893هـ)، فاستسلام باسطة وما حولها من الحصون (895هـ).
ثم جاء دور ما تبقى من حصون الأندلس، جاء دور غرناطة آخر معاقل المسلمين، وجمع فرديناند جموعه للتوجه نحو غرناطة، فظهرت خيانة جديدة من “أبي عبد الله محمد الثالث عشر المعروف ب”الزغل” لابن أخيه الملك أبي عبد الله الصغير طمعا في الملك، فكان سببا في إضعاف المملكة وجعلها فريسة لمملكتي قشتالة وأرجوان. لكن جرت الرياح بما لم تشتهيه السفن، فأهل غرناطة له كارهون وباسم ابن أخيه يهتفون، فما كان منه إلا أن أخذ أمواله وحشمه وخدمه متوجها إلى المغرب ليعيش عيشة هنية بما أخذه معه من مال وجوار وخدم لكن حاكم فاس سرعان ما ألقى القبض عليه وجرده من كل ما يملك، فسملت عيناه وألقي به في السجن ثم أطلق سراحه بعد ذلك، فعاش متسولا منبوذا حتى مات. واشتد الحصار على غرناطة واستسلم الملك الصغير ومن معه من قادة الجيش وعلماء السوء إلا وزيره موسى الشهم. فكان استشهاد موسى بن أبي غسان وتسليم الملك الصغير أبو عبد الله غرناطة للملكين “فرناندو الخامس” و”إيزابيلا” إيذانًا بانتهاء عصر حكم المسلمين في غرناطة -أجمل مدينة في العالم- وبسقوطها ينتهي حكم المسلمين بالأندلس. أعطى أبو عبد الله محمد الثاني عشر أو محمد الصغير الموافقة بالتسليم، ولم ينسَ أن يرسل إليهما بعضًا من الهدايا الخاصة، وبعد التسليم بأيام يدخل الملكان في خيلاء قصر الحمراء الكبير ومعهما الرهبان، وفي أول عمل رسمي يقومون بتعليق صليب فضي كبير فوق برج القصر الأعلى، ويُعلن من فوق هذا البرج أن غرناطة أصبحت تابعة للملكين الكاثوليكيين، وأن حكم المسلمين قد انتهى من بلاد الأندلس. خرج آخر ملوك المسلمين أبو عبد الله محمد بن الأحمر الصغير الخائن من القصر الملكي في نكسة كبيرة وفي ذل وصغار، ويسير بعيدًا في اتجاه بلدة “أندرش”، حتى وصل إلى ربوة عالية تُطل على قصر الحمراء يتطلع منها إليه، وإلى ذاك المجد الذي قد ولَّى، وبحزن وأسى قد تبدى عليه لم يستطع فيه الصغير أن يتمالك نفسه، انطلق يبكي حتى بللت دموعه لحيته، حتى قالت له أمه “عائشة الحرة” : أجل؛ فلتبك كالنساء مُلْكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال.
وإلى هذه اللحظة ما زال هذا التل -الذي وقف عليه الملك الصغير- في إسبانيا، وما زال الناس يذهبون إليه، يتأمَّلون موضع هذا المَلِك الذي أضاع مُلكًا أسسه الأجداد، ويُعرف (هذا التل) بـ زفرة العربي الأخيرة، وهو بكاء أبي عبد الله محمد الصغير حين ترك ملكه.
فكان سقوط الأندلس في الثاني من شهر ربيع الأول سنة 897هـ= 2 من يناير سنة 1492م. وهاجر بعدها أبو عبد الله محمد الصغير إلى بلاد المغرب الأقصى، واستقر بفاس، وبنى بها قصورًا على طراز الأندلس، وكانت ذريته بعده يعدون من جملة الشحاذين، إنها عاقبة الذل والخيانة وتصل لعنتها إلى الولد السابع. (انظر: دولة الإسلام في الأندلس، محمد عبد الله عنان: ج7 ص257 وما بعدها). وفي سنة 905 هـ 1499م أمر ملك إسبانيا فرديناند بإغلاق المساجد وحظر إقامة شعائر المسلمين وبدأت الكنيسية الكاثوليكية بتنصير المسلمين إكراها، ثم جاء خلفه بعده فمنع المسلمين من التحدث باللغة العربية وقراءة القرآن… بل صدر بعد ذلك قانون عجيب يمنع المسلمين من الاغتسال، فهدمت الحمامات في المدن… ثم أعقبه قانون منع الزي العربي…
ثم أنشئت هيئات كنسية ومحاكم التفتيش للبحث عن المسلمين الذين يبطنون الإسلام ويظهرون خلاف ذلك.. وبلغت حصيلة القتلى في تلك الحملة ثلاثة ملايين نسمة أحرق الكثير منهم بمجرد وجود مصحف في بيته…
ولما حاول بعض المسلمين الثورة على هذا الوضع سحقوا جميعا واستشهد منهم أزيد من عشرين ألفا، وقتلوا بأبشع أنواع القتل والهمجية والوحشية، وهتكت أعراض نسائهم وأطفالهم..
انطوت صفحة عظيمة من التاريخ، وانتهت حضارة وصلت إلى أوج ازدهارها، وخسر العالم حضارة الدين والدنيا في الأندلس، وارتفعت راية النصرانية على أرضها، وغربت شمس حكم المسلمين هناك بسبب مخالفة سنن الله في استمرار الأمم ورقيها، فأصبحت حضارة الأندلس حصيدا حصدته سنن التاريخ جزاء وفاقا…!!

د. رشيد كهوس

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>