لغتنا العربية : أي سبيل لتحصينها والارتقاء بها؟


لم يسبق للغة العربية واللسان العربي أن مرا في تاريخهما الحضاري بما يمكن وصفه اليوم بالأزمة القاتلة، انحسارا وإهمالا وعزوفا من أبنائها ومنافسة من خصومها وتضييقا متعدد الجوانب والمصادر، وضعفا بل وعجزا عن المقاومة والخروج من نفق الأزمة.

ولقد تعددت التحذيرات منذ ما يزيد عن قرن، وتنوعت الدراسات المشخصة لوضعها، وكثرت نواقيس الخطر من كثير من الجهات الغيورة على هذه اللغة، وعلى هذا الدين، وعلى هذه الأمة، وعلى هذه الحضارة، وفي هذا السياق يرمي هذا المقال إلى تجلية بعض السبل التي يرجى من العمل بها إنقاذ اللغة العربية، وتحصينها من كثير من المهددات، والارتقاء بها اكتسابا وتوظيفا وقدرة على البقاء والاستمرار والتجدد.

ولا يمكن أن نصل إلى مستوى تحصين اللغة العربية من هذه المهددات إلا بتوفير محصنات عديدة من شأنها أن تضمن للأمة الأمن على هويتها وخصوصياتها ومقوماتها الدينية واللغوية ومن أبرز ذلك :

- تعميم تدريس اللغة العربية وعلومها وآدابها في جميع الأسلاك التعليمية، وتيسير سبل اكتسابها تفكييرا وتعبيرا وتدبيرا، واستعمالها في التدريس والحوار داخل الفصل وتشجيع التلاميذ على استعمال العربية الفصيحة والسليمة في إنتاجاتهم الشفاهية وإبداعاتهم الكتابية.

- تعميم تدريس القرآن الكريم والسنة النبوية وعلومهما في جميع الأسلاك التعليمية لأن نصوص الوحي وعلومه تضمنت اللغة في جانبها الأفصح والأرقى، والذي من شأن اكتساب الطفل له أن يكسبه اللغة العربية الفصيحة، ويقدره ذلك على تجاوز مختلف الصعوبات التي يعاني منها ناشئة اليوم، بل إن حاجة الأمة إلى تعليم العربية وعلومها وتعليم الوحي وعلومه حاجة لا ينفك منها عصر، لأن به تجدد حياتها وتجدد الدماء في عروقها، لذلك اعتبر علماء الأمة أن ” العلم بلغة العرب واجب على كل متعلق من العلم بالقرآن والسنة”(الصاحبي لابن جني، ص 50)، كما أن ضعف التدين فهما وتطبيقا واجتهادا مرتبط بمقدار حظ الأمة من علوم الوحي واللغة وكلما ضعف هذا الحظ ضعف تدينها تصورا وتصرفا بله الإبداع لذلك لاحظ ابن جني بحق ” أن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد فيها، وحاد عن الطريقة المثلى إليها إنما استهواه واستخف حلمه ضعفه في هذه اللغة الشريفة الكريمة” ‘الخصائص: 3/245)

- تكميل مسيرة تعريب العلوم في المستوى الجامعي وتعريب العلوم التكنولوجية والصناعية في مدارس التكوين المهني والمعاهد العليا وكليات العلوم، وتوسيع شبكة المعاهد والمراكز المتخصصة في التعريب والترجمة وتيسير سبل نشر بحوثها ونتائجها على مستوى الإدارات والمؤسسات المعنية بتلك النتائج، لأن اعتماد اللغات الأجنبية في تدريس العلوم يعد أكبر العوامل في ضعف اللغة الأم، لأن اللغة الأجنبية تحل محلها في الاستعمال والتداول تدريجيا عبر الأجيال، وتصير الإقبال على اللغات الأجنبية أكثر لكونها سببا في الارتقاء الاجتماعي.

- إيلاء اللغة العربية مكانة قانونية وعملية في القرار السياسي، وإيلاء الحاملين للشواهد العلمية فيها، والحاصلين على الشواهد العليا في العلوم المعربة تقديرا خاصا وفرصا في تولي المناصب أكثر من الحاصلين على الشواهد باللغات الأخرى، واشتراط إتقان اللغة العربية نطقا وقراءة وكتابة في تولي المناصب أياً كان نوعها ومستواها لأن مما يزهد الناس في لغة ما ويجعلهم يقبلون على أخرى هو مدى ما تحققه من ارتقاء اجتماعي وقوة طلبها في سوق الشغل والعمل والإدارة.

- إدخال كل الأحزاب والنقابات والهيئات والجمعيات المدنية مسألة الدفاع عن اللغة العربية وحمايتها والارتقاء بها ضمن مشاريعها، وإعداد برامج مشروعات عملية في جميع القطاعات والمستويات، وذلك واجب تاريخي وحضاري أكثر منه واجب محلي أو قطري أو ظرفي، أو واجب على بعض دون بعض.

- إشراك المؤسسة الإعلامية في الاهتمام باللغة العربية استعمالا وتعليما وترويجا لما أصبح يحظى به الإعلام من نفوذ وسلطة في التأثير سلبا وإيجابا، وباعتبار أن اللغة العربية لغة رسمية بقوة القانون والتاريخ والاستعمال في البلدان العربية فلا يحق للإعلام أن يعزف لحنا خارج النسق المكون لهوية الأمة، ومن جملة ما يمكن أن يساعد به الإعلام في تقوية اللغة العربية في هذا الجانب:

- إنتاج برامج إعلامية تستعمل اللغة العربية الفصيحة، أو ترجمة الأعمال الإعلامية ودبلجتها باللغة العربية الفصيحة، وتجنب الدبلجة والإنتاج باللهجات العربية المحلية، لما يمكن أن يحقق هذا العمل من تأثير تدريجي وواسع في استعادة استعمال اللغة العربية على أوسع نطاق شعبي ورسمي، والدليل على هذا الأثر الكبير الذي أحدثته الأفلام المصرية بلهجتها المصرية في المواطن المغربي الذي صار يتقن اللهجة المصرية فقط عبر الأفلام والمسلسلات التي غزت الإعلام المغربي في الستينيات وما بعدها، فلو كانت هذه الأفلام باللغة العربية الفصيحة لقدمت خدمة جليلة للعربية.

< إعداد برامج الأطفال بمختلف أنواعها: أفلام، رسوم، برامج تعليمية ووثائقية… وتنويعها عدا ونوعا، إذ ثبت أن برامج الأطفال باللغة العربية الفصيحة لها تأثير قوي في إقدارهم على اكتساب اللغة وتوظيفها بشكل طبيعي خال من تعقيدات التعلم وصعوباته، فضلا عن أنه ينمي قدراتهم العقلية ويوسع من حصيلتهم المعرفية ورصيدهم العلمي، وينمي فيهم القدرات التواصلية والحوارية.

- اعتماد المسابقات الثقافية في اللغة العربية وبها : في الشعر والقصة، والمسرح، والمقالة … وتوسيع الإعلام بها والتكثير منها كما وكيفا، في الإعلام الرسمي والفضائيات، وفي المؤسسات التعليمية، وتخصيص الجوائز للمتفوقين، ورعاية الموهوبين منهم في تكوينات ودورات خاصة…

- إحداث مجالس أسرية مع الأطفال لتدريس وتعليم اللغة العربية من خلال الأشعار العربية الرصينة، والنصوص الأدبية المتينة : الخطابة والإنشاء والوصف والمقالة، والتدرب على استعمال اللغة العربية الفصيحة مع الطفل يساعده على اكتساب ملكتها شفويا وصقل مواهبه وقدرات التفكير والتعبير الكتابي والشفوي على حد سواء.

- تخصيص الآباء حصصا لقراءة قصص باللغة العربية لأطفالهم تناسب أعمارهم وبطريقة مثيرة ومؤثرة نبرا وتنغيما وأداء وفصاحة لتعويد الأطفال سماع اللسان العربي واستضمار نسقه الصوتي والصرفي والمعجمي والبلاغي والتداولي.

- حرص المدرسين والأسر المتعلمة على تشجيع أبنائهم على قراءة مواضيع باللغة العربية وإعداد بحوث فيها ومذاكرتها معهم باستعمال اللغة الفصيحة.

- تعويد الطفل على مرافقة والديه إلى المكتبات المتخصصة في بيع الكتب والقصص للأطفال، والحرص على تعريفهم بالمجلات والقصص المناسبة لهم وترك الاختيار لهم في اقتناء ما يستهويهم ويثير إعجابهم، وتوجيه ميولاتهم بطرق تربوية من شأنها تكوين الرغبة والملكة اللغويتين، كما أن على الآباء أن يتعودوا تقديم الهدايا والمكافئات للأطفال على شكل مجلات وكتب وأشرطة وأقراص تتضمن مواد باللغة العربية مثيرة ومسلية وذات مضمون تربوي ومعرفي مُنَمٍّ لقدراتهم وميولاتهم.

- التركيز على مسرح الطفل في كل المؤسسات التعليمية والجمعيات المدنية وداخل الأسر لما في هذا الأمر من تشجيع على حفظ الألفاظ والجمل والنصوص الفصيحة وأدائها بصورة تحاكي المواقف الاجتماعية الواقعية، مما يكسب الطفل نضجا لغويا وعقليا واجتماعيا مبكرا، ويكسبه اللغة تلقائيا وبصورة طبيعية من غير تعقيد ولا صعوبات.

- توسيع دائرة التأليف في أدب الطفل في مختلف الأجناس الأدبية بلغة أدبية رشيقة وشائقة وجذابة

- إحداث مزيد من مجلات الأطفال بلغة عربية مناسبة لمختلف الأعمار ومتنوعة في تخصصاتها بما يستجيب لحاجيات المتعلمين شكلا ومضمونا، ذوقا وعقلا وتخصصا: علوم شرعية وعلوم مادية، وآداب وعلوم إنسانية، وتشجيع كتابة الشرائح المستهدفة، وتشجيع الأطفال الموهوبين في الإبداع باللغة العربية في أي مجال كان.

-استعمال الوسائط التقنية في تعليم اللغة العربية تلفاز، إنترنيت، شبكات التواصل الاجتماعي، أقراص، ومن خلال توظيف أفلام قصيرة، أنشودة، حوارات، مسلسلات،  تصوير مشاهد وثائقية والتعليق عليها بأصوات أطفال يجيدون استعمال اللغة العربية.

- جعل اللغة العربية لغة الكتابة والإعلانات واللوحات الإشهارية على أبواب المؤسسات والمحلات التجارية واللافتات ومنع الكتابة باللغات الأجنبية واللهجات العربية الدارجة.

- فتح أبواب المساجد للتعليم الشعبي، فقد كان للمسجد دور تعليمي رائد لجميع شرائح المجتمع، ففيه تعلم الكثير من أبناء الأمة الذين لم تسعفهم ظروف الحياة في التمدرس الحقيقي، فقام المسجد من هذه الوجهة بتقريب الهوة بين جمهور الناس وعامتهم وبين المستوى العلمي المطلوب لغة ودينا،  تفكيرا وتعبيرا بشكل طبيعي وسلس.

وختاما يمكن القول : إن العربية تجتاز اليوم مرحلة دقيقة وعصيبة في حياتها وتاريخها تعكس  ما تعيشه الأمة اليوم من ضعف وتردِِّ وتراجع حضاري في مستويات عدة، ويكفي الأمة لاستعادة وعيها بذاتها الحضارية أن تعود إلى خدمة كل مقوماتها الذاتية خدمة شاملة مبنية على التنسيق والتشاور والتكامل والرؤية الاستراتيجية الراشدة لكل ما تحتاجه مكونات منظومة هوية الأمة من خدمة : دينا ولغة وتراثا وحاضرا ومستقبلا خدمة علمية وعملية تداولية تجديدية، فلا حياة لدين ولا للغة ولا لتاريخ من غير فاعلية القوم واعتزازهم بذلك، وكما أنه لا بقاء لهوية من غير تشبث قومها بها وتفانيهم في تعزيز  وجودها وبقائها فلا بقاء لقوم بدون هويتهم، وما دامت اللغة العربية تتبوأ مكانة جوهرية في منظومة الهوية الإسلامية للأمة، فالحفاظ عليها حفاظ على هذه المنظومة بكل مكوناتها.

 

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>