قراءة سننية في نتائج سرية مؤتة


كانت سرية مؤتة(1) في جمادى الأولى سنة ثمان من مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم(2). كان نصر الله للمؤمنين بعد مخاض عسير، وابتلاء شديد، قتل أصحاب اللواء، وأخذ اللواء سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه فأضرمت نيران الحرب وحمي وطيس المعركة، فقتل من قتل من المسلمين، كر الآخرون راجعين إلى المدينة، فكان النصر ليس كما عهده البشر وليس بظواهر الأحداث، ولذلك لما وصل جيش المسلمين إلى المدينة واستقبلهم الصبيان بقولهم:” يا فرار! أفررتم في سبيل الله؟(3)، لكن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أدرك حقيقة الانتصار في هذه المعركة أجابهم بقوله: (ليسوا بفرار ولكنهم كرار إن شاء الله)(4)؛ ولهذا فإن النصر لا يكون دائما بظواهر الأحداث، ولا بالغنائم الكثيرة والأسارى المقرنين بالأصفاد.

وهنا أمر من الأهمية بمكان أشير إليه؛ وهو لما طعن سيدنا عبد الله بن رواحة رضي الله عنه-صاحب اللواء- فقتل أخذ اللواء رجل من الأنصار ثم سعى به حتى إذا كان أمام الناس ركزه ثم قال: إلي أيها الناس! فاجتمع إليه الناس حتى إذا كثروا مشى باللواء إلى خالد بن الوليد فقال له خالد: لا آخذه منك أنت أحق به؛ فقال الأنصاري: والله ما أخذته إلا لك!(5).

ولذلك لما أبى ذلك الرجل من الأنصار القيادة(6)، وأخذ اللواء سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه؛ وشرع في القتال حاول التخلص من هذا المأزق الضيق؛ ثلاثة آلاف من الجنود تواجه فيالق تربو عليهم سبعين ضعفا حاول الانسحاب، وقتال الانسحاب شاق مرهق، خصوصا وخالد لا يريد إشعار الروم بهذه الخطة.

والعجيب أن الرومان أعياهم القتال وأصيبوا فيه بخسائر كبيرة؛ بل إن بعض فرقهم انكشف، وولى مهزوما. واكتفى خالد بهذه النتيجة، وآثر الانصراف بمن معه.

والدلالة التي تعلو على الريب في هذه المعركة أن شجاعة المسلمين وبسالتهم بلغتا حدا لم تعرفه أمة معاصرة، وقد أكسبهم هذا الروح العالي إقدامًا حقَّر أمامهم كبرياء الأمم التي عاشت مع التاريخ دهرًا، تصول وتجول لا يوقفها شيء(7).

هذا، ومما لا ريب فيه أن  انسحاب سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه كان انتصارا للمسلمين وإن بدا في ظاهره هزيمة،  لأن الثبات في وجه العدو يكون مطلوبا إذا أدى إلى هزيمة العدو والاستيلاء على أرضه، فإذا خلا من هذه الغاية، وصار وسيلة لفناء الثابتين صار الثبات غير مطلوب، ربما صار محظورا، ويكون النجاح في تخليص الجيش من قبضة العدو أو من أسره لجنوده. وهذا ما حققه خالد بانسحابه الجريء المنظم، وهذا ما لاحظه سيد العارفين محمد صلى الله عليه وسلم فقد حفظ خالد قوته وجيشه لمعارك أخرى قادمة يكون النصر فيها قريبا من المسلمين إن شاء الله تعالى(8).

n 391 4

ومجمل القول: فإن مقياس النصر لا يكون دائما من خلال ظواهر الأحداث، ولا بالنتائج المادية في نهاية المعارك؛ كسحق قوات العدو واحتلال دياره وجمع الغنائم، وإنما قد يكون من خلال ظواهر أحداث قد  لا تسرّ عامة المسلمين، وإن كانت هذه الأحداث في لبها هي عين النصر، وإن كان في الآجل وليس في العاجل. وخير دليل على هذا ما وقع في صلح الحديبية، فقد كره المسلمون الصلح ولكنه كان عين النصر والتمكين في الآجل وعلى غير النمط والأسلوب والكيفية التي رغب فيها المسلمون، ولذلك سمى الله تعالى ذلك الصلح مع قبائل قريش “بالفتح” كما جاء في سورة الفتح.

وكذلك انسحاب سيف الله المسلول خالد بن الوليد رضي الله عنه، وتخليص جيش المسلمين من الهلاك ومن قبضة الأعداء، وإبقاؤهم لمعارك قادمة، كان ذلك نصرا حقيقيا للمسلمين.

فعلى جند الله أن يفقهوا ذلك ولا يحسبوا النصر بما تشتهيه أنفسهم، فإن الغيث  النازل من السماء رحمة للناس، ولكن لا يشترط أن يبقى على سطح الأرض حتى يروه، فهو رحمة وإن اختفى في باطن الأرض، وإن نصرهم وظهورهم  بقدر بذل جهودهم ومساعيهم وطاقتهم وإخلاصهم في عملهم.. ورب تأخير الوصول إلى تحقيق المقصود خير من التعجل في الوصول إليه يتبعه انكسار ونكسة وتراجع.

———

(1) مُؤتَةُ: قرية من قرى البلقاء في حدود الشام وبها كانت تُطبع السيوف وإليها تُنسب المشرفية من السيوف. معجم البلدان، باب الميم والواو وما يليهما، حرف الميم.

(2) طبقات ابن سعد، 2/128. مغازي ابن عقبة، ص263-265. تاريخ الإسلام، المجلد الأول(المغازي)، شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد الذهبي (ت661هـ)، حققه وقدم له وأعد فهارسه: محمد محمود حمدان، ودار الكتاب المصري- القاهرة، دار الكتاب اللبناني- بيروت، ط1/1405هـ-1985م، 1/401.

(3) طبقات ابن سعد، 2/129.

(4) طبقات ابن سعد، الجزء نفسه والصفحة ذاتها.

(5) طبقات ابن سعد، 2/130.

(6) أبى ذلك الأنصاري ( القيادة لا هروبا من الاستشهاد ولا نكوصا عن الموت، بل شعورا بوجود الأكفأ منه في الصف، وحمله الراية خشية أن تسقط من صور الشجاعة وآيات الجرأة في أحلك اللحظات وفي هذا الموقف العصيب. وليت كل امرئ يعرف أقدار الناس فينزلهم منازلهم التي يستحقونها، فلا يكلف أمته أن تحمل سوء قيادته وعجزه وأثرته.

(7) فقه السيرة، الغزالي، ص398-400.

(8) المستفاد من القصص القرآني، 2/383.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>