ألقاها بالنيابة الدكتور عبد الواحد بن داود مدير التعليم العتيق
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه أيها السادة الأفاضل أيتها السيدات الفضليات نسأل الله تعالى أن يجازي بفضله وإحسانه القائمين في مؤسسة البحوث والدراسات العلمية على ما سعوا إليه وبذلوه لتنظيم هذه الندوة حول السيرة النبوية الشريفة. إن ما اصطلح عليه علماء المسلمين بالسيرة أو علم السيرة يشمل جوانب عدة منها على الخصوص بيليوغرافيا النبي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مراحلها المختلفة وتشمل تاريخ دعوته وعمله من أجل تبليغها وتحقيق مضامينها في سياق قومه وصحابته خاصة وهي ما سجله الوحي أولا، وحديثه صلى الله عليه وسلم ثانيا، وما روي من الأخبار عن صحابته ثالثا. وهي أكمل السير لارتباطها بوحي محفوظ وأعظمها أثرا في التاريخ لأنها شملت جوانب البناء العقدي والحضاري في جهاد سلمي دفاعي طالب بحرية التواصل والتبليغ وتأسيس جماعة الإيمان، بناء متكاملا لدين غطى الحقيقة والأخلاق والقانون وتعدى اقتراح سبيل للهداية إلى تحويل مجتمعي على أساسها كما مارس سلوكا سياسيا رسم القواعد الكبرى للدولة ووضع هوية هي هوية انتماء غير مسبوق لأمة جديدة. فالسيرة تستدعي المدارسة المستمرة لأن أهميتها أو قل مركزيتها مستمدة من طابعها المؤسس من جهة ومن استمراريتها في حياتنا نحن المسلمين على مستويات منها :
1- مستوى التصور
2- مستوى النموذجية المؤسساتية
3- مستوى النموذجية الأخلاقية الفردية
4- مستوى التشريع
5- مستوى الاستمداد العاطفي والروحي واسمحوا لي أن أجمل كلمتي باقتضاب شديد في صنفين من الملاحظات، صنف يتعلق بارتباط تاريخ المغاربة بالسيرة وبصاحبها عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم، وصنف يتعلق بدراسة السيرة وتدريسها في علاقتها بحياتنا الحاضرة. بالنسبة للصنف الأول نكتفي بهذه الإشارات :
1- دخلت الدعوة المحمدية إلى المغرب الأقصى على العهد الأموي انفتاحا لا على صورة فتح، وعلى هذه الحقيقة شواهد، لكن المغاربة تخيلوا أن وفدا من عجمهم الأمازيغ شدوا الرحال إليه عندما سمعوا به في حياته، وأنه كان كالمنتظر لمجيئهم وأنه تعرف عليهم وكلمهم بلغتهم الأمازيغية، وأنه باركهم وأعطاهم كتابا إلى قومهم جعلوه في مدفن معلوم يتبركون به.
2- تصور المغاربة أن الحديث الذي ذكر فيه القوم الباقون على العهد لا يضرهم من خالفهم حديث جاء فيهم.
3- أن الحقيقة التاريخية التي ساوقت وجدانهم هي استقبال ذريته صلى الله عليه وسلم من سلالة سيدنا الحسن رضي الله عنه وهم الأدارسة، بناة هذه المدينة، مدينة فاس، حيث أعطوهم زمام أمرهم في أول دولة مركزية سنية حققت للمغرب طابعه السياسي بقيام إمارة المؤمنين الممتدة إلى يومنا هذا.
4- تمازج عندهم التسنن بمحبة آل البيت كما اقترن الفقه عندهم بالشمائل في ما صنفوه من درر سامقة مثل شفاء القاضي عياض ومديح السهيلي.
5- أنهم كرسوا لاسيما في مدينة سبتة الاحتفال بعيد المولد لأن حاجة المغاربة إلى الاستمداد العاطفي من محبة النبي والاحتفال به ضرورة لاستنهاض الهمم في أوقات كان فيه المغرب وحده في مواجهة الحروب الصليبية الغربية في أشدها وهي حروب تحمل المغاربة تبعاتها لمدة سبعة قرون إلى أن كانت بداية عاقبتها الوخيمة باحتلال مدينة سبتة والاحتلال الإيبيري للشواطئ المغربية الأطلسية.
6- وقوع التعبئة للتحرير بنفس الأنفاس الروحية أنفاس ما أمر به المؤمنون من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان كتاب الجزولي دلائل الخيرات، الذي صنفه صاحبه الإمام في هذه المدينة وقامت على أساسه في أقصى الجنوب الحركة الجهادية التي أنقذت المغرب من التنصير الشامل وأبقته على الإسلام إلى يومنا هذا.
7- إن الحل السياسي الأنسب لأزمة المغرب في بداية العصر الحديث استدعى عودة ذرية النبي صلى الله عليه وسلم إلى الولاية العظمى وإمارة المومنين مرة أخرى، وهو ما استمر خمسة قرون إلى يومنا هذا.
8- أن المغاربة قد وقفوا أوقافاً على تدارس السيرة النبوية ومدارستها في الجوامع والمعاهد. أيها السادة الأفاضل، أيتها السيدات الفضليات أما الملاحظات المتعلقة بدراسة السيرة وتدريسها في ارتباط مع حياتنا في الحاضر فيمكن إجمالها كما يلي :
1- أن التعلق الوجداني الصوفي عند المغاربة إزاء الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو تعلق خلاق للإبداع كما هو خلاق للاتباع. الإبداع في تعابير بشتى اللغات وعلى أفواه كل الفئات العالمة منها والشعبية الفطرية، ووزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية مشتغلة بالتعاون مع الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون على تسجيل أنماط من هذا التعبير المنحدر إلينا من سالف العصور، أما في جانب الاتباع فإن محبة المغاربة للرسول صلى الله عليه وسلم لم تكن شطحاً ولا تحللاً ولكنها كانت على الدوام سلوكاً يتسم بالزهد والصرامة والحكمة، وهو تاريخ لا يمكن تشكيكهم فيه ولا التشويش عليهم في موضوعه؛
2- أن من القضايا الأساسية التي ينبغي أن تهتم بها كل دراسة للسيرة في علاقتها بالحاضر هي قضية سلم الأولويات في الاتباع، فلو ركزنا على الجزئي المظهري وقدمناه على المبدئي السلوكي، لأضللنا الأغرار من الأجيال ولعرضنا “أنفسنا لاستهزاء النبهاء منهم؛
3- أن من قضايا التفاعل الوجداني مع السيرة ضرورة تقليل هوة الخلاف بين المسلمين حول بشرية محمد صلى الله عليه وسلم التشريعية وطبيعته النبوية وعظمته الخلقية وكماله الروحي، وهي أبعاد يجب تقليص الفروق التصورية بين المسلمين في شأنها مع الاحتفاظ لعامة الناس بما يحفظهم من الزلل علماً بأن هؤلاء العامة هم أكثر الفئات احتياجاً إلى الانفعال المغذي للإيمان. هذا الانفعال الذي شبهه الناكرون في عهد الدعوة بأثر السحر؛
4- من القضايا التي ينبغي أن تهتم بها دراسة السيرة سبل تقديمها للأجيال الجديدة من المسلمين في لغة أكثر فهماً في هذا العصر.
ومن الأمثلة على ذلك أن نقدم ذلك الحوار الذي جرى بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين حاتم عدي على أنه برنامج لعرض الدعوة على أساس ما يعد به الإسلام من يدخل إليه كنظام يضمن الأمن للناس على حياتهم ويضمن لهم إسقاط الاستبداد والطغيان في علاقات الحكم، ونظام يعد بالرخاء في المعيشة حتى لا يحتاج أحد إلى مد يد لطلب الصدقة.
5- أن من القضايا أيضاً ضرورة الاقتناع بأن تكريم النبي إنما ينتظر قبل كل شيء من أهله باتباعه وتمثيله واقتراح نموذجه الأمثل على غيرهم من الناس؛
6- ضرورة التعرف على الدراسات الأجنبية في السيرة، وبهذا الصدد يتعين ترجمة عدد من الكتب التي تناولت السيرة على أيدي باحثين أجانب، وأذكر منهم على سبيل المثال كتابين اثنين كتبت أحدهما سيدة ألمانية اسمها آنماري شيمل توفيت عام 2003م وعنوان كتابها : “ومحمد رسوله”، وثاني الكتابين لسيدة إنجليزية معروفة هي كارين أرمسترونك، وعنوانه : “محمد نبي عصرنا هذا”.
ومن شأن التعرف بالترجمة والتقديم على مثل هذين الكتابين إصلاح الميزان التي تخسره الشتائم الصادرة عن أذناب في هامش المجتمع الغربي؛
7- أنه لا بد من تمرين الأجيال الجديدة وعموم الجماهير بواسطة الإعلام وغيره على التمييز بين سيرة تقدم بشكل تمجيدي طوباوي وبين سيرة تقدم بشكل تاريخي تحكمه سنة الله التي لا تبديل لها، والمهم أن يحضر الصنفان وأن يقع التمييز بينهما لأن التصور الطوباوي يجعل الاتباع وإعادة خلق النموذج معنتاً أو متعذراً، الشيء الذي يخلق الإحباط ويدفع إلى الإرهاب والانتحار. تلك ومضات غايتها استدعاء مزيد الإجلال لما أنتم مجتمعون عليه في هذه الندوة، والله الموفق إلى أقوم سبيل، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.