جهود أصحاب كتب الطبقات في تدوين السيرة النبوية


من أوجه خدمة كتب الطبقات للسيرة النبوية بدأ التصنيف في وقت متقارب، لكتب مختلفة الانتماء، لكنها تناولت جميعا أحداث السيرة من الوجه اللائق بالمنهج العام لتصنيفها، وهذه الكتب منها: كتب الحديث كالصحيحين، وكتب الطبقات كطبقات الواقدي وابن سعد، وكتب التاريخ، هذا علاوة على الكتب المفردة في السير والمغازي كالتي صنفها ابن إسحاق، وموسى بن عقبة وأضرابهما.
وقد خدمت كتب الحديث والطبقات السيرة النبوية خدمة كبيرة، ومن وجوه متعددة. والغرض هنا بيان جملة من أوجه خدمة كتب الطبقات خصوصا للسيرة النبوية. لا يمكن الوقوف على هذه الأوجه قبل التعرض لأمرين: حقيقة السيرة، ثم مادة كتب الطبقات فأما السيرة النبوية: فهي تاريخٌ للحوادث التي وقعت في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وارتبطت بها، سواء قبل البعثة النبوية وبعدها، وهي جزء من تاريخ الإسلام، وإن كانت ذات خصيصة تتميز بها وقد أدخل ابن خلدون السيرة الشريفة في جملة التاريخ العام فقال: “قد دون الناس في الأخبار وأكثروا، وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا، والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة، واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة، هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل، ولا حركات العوامل، مثل ابن إسحق، والطبري، وابن الكلبي، ومحمد بن عمر الواقدي، وسيف بن عمر الأسدي، والمسعودي، وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير”. وعليه فإذا كانت السيرة النبوية تحكي حال الرسول صلى الله عليه وسلم، وتقص أخباره، وكانت مادة كتب السير عند المتقدمين تُنقل بالإسناد، فقد تحصَّل لنا من مجموع ذلك ثلاثة أمور:
أولها: مادة السيرة نفسها، أو متون أخبارها.
ثانيها: نقلة هذه المادة.
ثالثها: الأعلام البشرية الوارد ذكرها في حوادث السيرة، وهم من جملة الخبر، لا من نقلته، أي: أنهم من ضمن المتن، لا من رجال سلسلة السند.

وأما مادة كتب الطبقات فإنها تاريخ رجال لهم رواية، أو ذكر في خبر مرفوع، أو حدث من أحداث السيرة فإذا عرفنا حقيقة السيرة، وعناصر مادتها وعرفنا مادة كتب الطبقات وموضوعها بقي أن نعرف وجه خدمة كتب الطبقات للسيرة الشريفة، على سبيل الإجمال: فقد خَدَمت كُتُبُ الطبقات المناحي الثلاثة جميعا التي تتكون منها كتب السيرة وهي: أحداثها نَفْسُها، ثم نَقَلة هذه الأخبار، وهم: رجال أسانيدها، ثم الأعلام الوارد ذكرهم في متونها. فأما خدمة كتب الطبقات لمادة السيرة نفسها بتدوين أحداثها فوجه ذلك أن المصطفى صلى الله عليه وسلم هو علم الأعلام، فَقُدِّمت أحواله، وصدّر بها الكلام على باقي الأعلام بمختلف طبقاتهم، وذلك في كُتُب للطبقاتٍ، وليس فيها جميعا كما سيأتي بيانه.
وأما خدمة كتب الطبقات للسيرة من خلال التعريف بحملة السيرة وهم رجال أسانيد أخبارها، ثم من خلال ترجمة الأعلام المذكورين في حوادثها فوجه ذلك معلوم إذ المتبادر إلى الذهن عند إطلاق “كتب الطبقات” أن موضوعها هو التعريف بالرجال من حيث تحديد طبقاتهم وتعيين أوقاتهم، وسياق المهم من أحوالهم.
وقد خدمت كتب الطبقات السيرة من الوجهين الأخيرين خدمة كبيرة، لأن ذلك هو الميدان الذي جرت فيه فرسانها، ولك أن تَتَصَوّرَ مقدار هذه الخدمة بتجريد كتب السيرة من الأعلام البشرية ممن كانت له مشاركة في الحدث الذي يُقص في السيرة، فإنه يَحْصُل من ذلك مجيليد صغير كله أسماء، لا يكشف كثيرا من أحوالها إلا كتب الطبقات، وأما رجال أسانيد أخبار السيرة فتوجد في كتب الطبقات من مادة التعريف بهم ما لا يوجد في باقي كتب الرجال.

د. محمد السرار كلية الشريعة – فاس.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>