{واتّقُوا الله، ويُعَلِّمكُم اللّه واللّه بِكُلِّ شيْءٍ عليم}


مــزَايـا الـتَّـقْـوى :

إن التقوى هي محْورُ الصلاحِ والإصْلاح، وهي أساسُ الفوْز والنجاح، في الدّنيا والآخرة، بل هي سرُّ الإحْسان في التفْكير والتْغْيير والتعبير، وسرُّ الإحسان في التدْبير والتّسْيير… فكيْف تُحصَى فوائِدُها وهي بهذِه المثابة؟! ولهذا نشير بعُجَالة إلى بعْض ثمارها فقط. منها :

1) أنّها سببُ الفوز بالنجاة من النّار يوم القيامة : قال تعالى : {تِلْكَ الجنَّةُ التي نُورِثُ من عبَادِنا من كان تقِيّاً}(مريم : 63)، وقال: {ثُمّ نُنَجِّي الذِين اتَّقَوْا ونذَرُ الظّالِمين فِيها جُثِيّاً}(مريم : 72)، وقال : {ويُنَجِّى الله الذِين اتّقَوْا بمفَازَتِهِم لا يمسُّهم السُّوءُ ولا هُمْ يحْزَنُون}الزمر : 58). ولوْ لمْ تكُن للتقْوى إلا هذه الثمرةُ لكَفَاها شرفاً ومزيّةً ومنزلةً، لأن الفوْزَ في الآخرة هو الرِّبحُ الذي ما بعْدَهُ رِبْحٌ، بلْ هو الرِّبْحُ الذي يُضَحِّى المُومِنُ مِن أجْل الحصول عليْه بكُلِّ غالٍ ونفيسٍ، واللّه عزّ وجل أرْشَد المُومنين ووصّاهُم بأن يجْعَلُوا هذا الرّبح هو الهدفَ الكبير المرسومَ أمامَ أعْيُنِهم وعقولِهم وبصائرهم وكُلّ نشاطاتِهم وتصرفاتِهم، لأنهُ الهَدَفُ السّامِي الذي لا أسْمَى مِنْه، والهدفُ الشريفُ الذي لا أشْرفُ منه. قال تعالى : {يا أيُّها الذِين آمنُوا اتّقُوا الله ولْتَنْظُر نفْسٌ ما قدّمَتْ لغَدٍ واتّقُوا الله إنّ الله خَبِيرٌ بِما تعْمَلُون}(الحشر : 18).

2) امْتِلاك كُـلّ وسائِل التّسْخِير للكَوْن : قال تعالى : {ولوْ أن أهْلَ القُرَى آمَنُوا واتّقَوْا لفَتَحْنا عَليْهِم بركَاتٍ من السّماءِ والارض}(الأعراف : 95) وكيْف لا يكُون الفتْحُ شامِلاً لجميع آلياتِ الاهْتِداء إلى اكْتِشاف خيراتِ الأرض وخيرات السماء، وهو مِن عِند اللّه تعالى؟! من عند الله الذي وعَد المُتّقين بأن يكون معَهم بالْهداية والتّوفيق والتأييد والتّيْسير {إنّ اللّه مع الذِين اتّقَوْا والذِين هُم مُحْسِنُون}(النحل : 128).

أوّلُ تجليّات المعية :

التّيْسير : {ومن يتّقِ اللّه يجعل له مِن أمْره يُسْرا}(الطلاق : 4)، وقــال تعالى : {فأمّا من أعْطَى واتّقَى وصدّق بالحُسْى فسَنُيَسِّره لليُسْرَى}(الليل : 7). فالله عز وجل ضَمِن للمتّقِين حُسن تيسِيرِ كُلّ أمُورهم في كُلِّ مناحي الحياة، أمُورهم الفرديّة ميسّرة، وأمورهم الأسريّة ميسرة، وأمورهُم الاجتماعية ميسّرة، وأمورهم السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والفكرية، والتخطيطيّة، والتنظيميّة، والإدارية والشوريّة، والحُكميّة، والطبيّة، والصّحيّة، والفلاحية، والتجارية.. كُلُّها مُيَسّرة، لأنها أمُورٌ تدْبِيريّةٌ لكيفيّة التسْخير للكون المسخّر بفضل الله. وكيف لا تكون مُيسّرة وهي مرتبطةٌ بالله تعالى الذي يُدبِّر الأمْر كله، ومنه الابْتداء، وإليه المَصِير؟! وكيف لا تكونُ ميسّرةً والعقْل المُفَكِّر المخطِّطُ همُّه إرْضاءُ اللّطِيفِ الخَبير؟! وإسْعادُ خلْقِه بفتْحِ آفاقِ العَيْش الكريم أمامَهم، حتّى يهْتدُوا إلى ربِّهم في سلاسةٍ ويُسْرٍ؟! ويعْبُدوه بالشّكْر الخاشِع ليزدَادُوا خيراً على خيْر، وتمكيناً على تمْكين، وإسعاداً على إسعاد، وسكينةً على سكينة؟!؟!

3) تنْويرُ الطريق لتوْضيح الفرْق بين الحق والباطِل : فالكثير الكثيرُ من النّاس تائِهون يهِيمُون على وجوهِهِم في كُلِّ درْب من دُرُوب الحياة، لا يعْرفون الفرق بين الشّهوة الحرَام والشّهْوة الحلال، والفرْق بين المَكسَب الحَرام والمكْسب الحلال، والفرْق بين المأكل الحرام والمأكل الحلال، بيْن المشْرب الحرام والمشرب الحلال، بين القوْل الحرامِ والقوْل الحلال، بين المجْلِس الحرام والمجلس الحلاَل، والحفْل الحرام والحفْل الحلال.. إلى غير ذلك من التصرّفات لأنّهُم فقَدُوا القِبْلة الربّانيّة المضمُونة بتقْوى الله تعالى وخَشْيتِه، قال تعالى : {يا أيُّها الذِين آمَنُوا اتّقُوا اللّه وآمِنُوا برسُولِه يوتِكُم كِفْلَيْن من رّحْمته ويجْعل لكُن نوراً تمْشُون به}(الحديد : 27) وقال تعالى : {يا أيّها الذِين آمنوا إنْ تتّقُوا اللّه يجْعل لكُم فُرْقاناً}(الأنفال : 29).

4)ضمانُ الحصَانَة الربّانية : إن الكثير من النّاس المحْظُوظِين منْصِباً، أو مالاً، أو جاهاً، أو نسباً يمْتلِكون الورقَة البيْضاء التي تجعَلُهم فوق القانون، فوق المُساءلة، فوق مُستوى المُسْتضعفين، لكنّهم مع ذلك لا يمْتلكون ضمانة دوامِها، ولا ضمانَة شُمُولِها لكُلِّ تقلّبات الزمان، فهناك من كان في أعْلى علّيّين وأصْبح بيْن عشيّة وضحاها في أسْفَل سافلين. لفقدان أسبابِ الحصَانة المُهلْهِلة، أمّا الحصانة الربّانيّةُ المنْسُوجة من مادّة التّقوى فإنها حصانةٌ دائمةٌ، خالدةٌ، شامِلةٌ لكُلّ الأحْوال التي يتعرّضُ إليها الإنسانُ المُومِن التّقِيُّ، فلِبَاسُ التّقْوى أصحُّ لباسٍ، وأقوى لباسٍ، وأدْوَمُ لِباسٍ، بلْ وأجْملُ لباسٍ يتحلَّى به المُومن التقيّ، ويتحصّنُ داخِلَه أمام كل الأخْطار، وأمام كُلّ المكائد والأشْرار، قال تعالى :{وإن تصْبِرُوا وتتّقُوا لا يضِرْكُم كيْدُهُم شىْئاً إنّ اللّه بما يعْمَلُون مُحيط}(آل عمران : 120)، بل أكْثُر من ذلك فإن لباس التّقوى يجْلُب المدد الرّبّانيّ الذي لا يقِفُ أمامَهُ أيُّ مددٍ بشَريٍّ مهْما كانتْ قُوتُه، قال تعالى : {بلَى، إن تَصبِروا وتتّقُوا وياتُوكُم من فوْرِهم هذا يُمْدِدْكُم ربُّكُم بخَمْسَةِ آلافٍ من الملائكة مُسَوَّمين}(آل عمران : 125) فهلْ قوّة الكبار المُتَمتْرسِين خلْف القُوّة النوويّة المُدمِّرة تستطيعُ الوقُوف أمام ملكٍ واحِدٍ يسْتطيع بأمْر ربّه أن يخْسِف الأرض بمَن عليها من الجبابِرة والمُستكْبرين المتَسلّطين؟! ولكنّ قوْمنا -مع الأسف- لا يعْلمُون!!! وأنّى لهم أن يعْلَمُوا وهُمْ في عِبادةِ أهْواءِ البَشَرِ غَارِقُون؟!! 5) تلقّى العِلْم من عند اللّه الذي أحاطَ بكُلِّ شيْءٍ عِلْماً : وكيف لا يتلقّى المُومِنُ التّقيُّ العلْم من عند ربّه، وهو مرتبطٌ به ارتباطاً قلْبيّاً وشعوريّاً وانقياديّا وحِبِّيّاً ورجائياً؟! وكيف لا يتلقى العِلم من عند ربه وهو مُتصِلٌ به آناءَ اللّيل وأطراف النهار؟! إذا صلَّى فللّه، وإذا صامَ فلِلّه، وإذا تضرّع فللّه، وإذا قال فللّه، وإذا تعلَّم فللّه، وإذا عَدَل فللّه، وإذا فرِح فللّه، وإذا غضِب فللّه، وإذا تزوّج فللّه، وإذا ربَّى أولادَه فللّه، وإذا أعْطى فلله، وإذا منَع فللّه، وإذا أكل فلله، وإذا نام فلله، وإذا استيقظ فلله، شعارُه : {قُلْ إن صلاتِي ونُسكِي ومحْيايْ ومماتِي للّه ربّ العالمِين لا شَريك له وبذَلِك أُمِرْت وأنا أوّل المُسْلِمين} (الأنعام : 165). فمن ارتبط باللّه ارْتِباط العبْد بموْلاه، وارتباط الضّعيف بمصْدر قوّتِه وعزّتِه، وارتباطَ الجاهِل بمعَلّمه، وارتباط الجائع بمُطْعِمه، وارتباط الظمآن بمنْ فجّر له الأنهار، وأنزل له الأمطار لريّ حلْقِه وأرْضه… فمن كان مرتبطا بالله عز وجل هذا الارتباط كان مستنداً إلى الرُّكن الرّكين، والحِصْن المتين، يُرشده إذا تاه، ويفتح له الطريق إذا انسدّت أمامه السبُل، وينْصرُه إذا حورب أو تُعُدّي عليه، ويكْلؤه بالعناية الربّانية والألطاف الخفيّة إذا تمالأت عليه شياطين الإنس والجان، في كل زمان ومكان، ويُسخِره لدعْوة الإنسان إلى ما يُصلحُه في الحاضِر والمآلِ، بل يجْعله من أوليائه الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.

مزايـا العلـم الـمُـحَصّـل عـن طـريـق التّـقْـوى : من أكبر مزاياه :

1- التَّخْطيط وفْق أكْبريّة اللّه : فلا يتمُّ التخطيط لممارسة السياسة، أو مُمارسة الاقتصاد، أو ممارسة التّقْنين، والتشريع، أو مُمارسة التّعليم والتّثقيف وارْتياد آفاق البحْث العِلْمي وغير ذلك إلا وفقَ أكبريّة الله تعالى في كل شيء، حتى تكون جميعُ المشاريع موحدة القِبلة، موحّدة الوِجْهة، تُنتِجُ أجْيالاً عابدةً شاكرةً، وعلماً عابداً شاكراً، واقتصاداً عابداً شاكراً، وسياسةً عابدة شاكرة، وتشريعاً عابداً شاكراً.

2- الحُكْم وَفق أكبريّة الله تعالى : الكثيرُ من المتهافِتين على كراسِيّ الحُكْم والمسؤولية ينظرون إلى الحُكْم والمسؤولية على أنهُما شرفٌ وغنيمة ليْس وراءهُما تبعاتٌ لا دنيوية ولا أُخرويّة، منْبعُ ذلك كُلّه الهَوَى وحُبُّ المصْلحة الخاصّة، والإفراطُ في الأنانيّة المقيتة، والدكتاتورية العفِنة، وهذا يُنتج فساداً على فساد، وامتعاضاً على امتعاض، وتخلفاً على تخلُّف، وضياعاً على ضياع، وتبعيّة على تبعيّة…. أما الحكمُ وفق أكبريّة الله تعالى فإن الحاكِم أو المسؤول يعْتبر نفْسه خليفةً عن الله، مراقباً منه في كل اللحظات، وموقوفاً بين يدَيْه لإعطاء الحساب يوم الحساب، ولذلك لا يخْطو خُطوةً، ولا يفكر تفكيراً، ولا يعْزم عزماً، إلاّ وفق رضا ربّه الكبير المتعال، وبذلك تنْصَلح الأحوال، وتنتعِش الآمال، وتنْطفئ كُلّ أسْباب الفِتَن والاضطرابات… لوجُودِ الحُكْم العابد الشاكر، اسْمع إلى واحٍد من الحُكّام فوق العادة ماذا قال عندما أعطاه الله مُلْكا لم يعْرفه أحدٌ قبْلَه، ولنْ يعرفَه أحدٌ بعده {وورِث سُليْمانُ دَاوودَ وقال يا أيّها الناسُ عُلّمنا منْطِق الطّيْر وأوتِيناً من كُلّ شيءٍ إنّ هذا لهوَ الفضْلُ المُبين وحُشِر لسُليمان جنُودُه من الجنّ والانْسِ والطّيْر فهم يوزعُون حتّى إذا أتَوْا على وادِ النّمْل قالت نمْلةٌ : يا أيها النّمْلُ ادْخُلُوا مساكِنَكُم لا يحْطِمَنّكُم سُلَيْمان وجنُودُه وهم لا يشعُرون فتَبسّمَ ضاحِكاً من قوْلِها وقال : ربِّ أوْزعنِي أن اشكُرْ نعمتك التي أنْعَمْت عليّ وعلى والِدَيّ وأن اعْمَل صالحاً ترْضاهُ وأدْخِلني برحْمتك في عبَادِك الصّالحين}(النمل : 19). إنّه النبيّ المَلِك الحَاكم سليمان |.. الذي سخّر الله له الريّاحَ والجنّ والإنسَ والطّيْر والحَشَراتِ تأتمِر بأمْره، بلْ وعلّمه لغاتِ الطّيْر والحَشَراتِ، ومع هذا التمكُّن والتمكين لا يسْتغْنَي عن الله مصْدر قوته وعزّته، بلْ يتضرّع إليه طالباً الهداية إلى كل طُرُقِ الشّكر لتحْصِين النِّعم من النقَم، والهداية إلى كُلّ الأعمال الصالحة المرضيّة. فما بَالُ حُكّامِنا يهجرون لغة الوحْي، ولغة الحضارة الفريدة، ويرطِّنُون ببعض لغات المأكولات والمشروبات والشهوات والمرْكوبات التي لا تخرُج عن دائرة المحسوسات فيظنون أنهم ارتفعوا فوق سَبْع سماوات!! لا يعرفون لربِّهم احْتراماً ولا وقاراً، ولا يعْرفون لقبْرهم انتظاراً!!

3- النظرة للدنيا وفق أكبرية الله تعالى : على أساسِ أن ما عند البشر ينْفَدُ وما عند اللّه باقٍ، وعلى أساسِ أن العاقبة للمتقين في الدنيا والأخرى فالكبير دُنيويّاً هو الصّغير الحقيرُ أُخْرويّا، والكبير أُخرويّاً هو المُكَرَّمُ دُنيا وأخرى. ألم يقُل الله تعالى {تِلْك الدّارُ الآخِرةُ نجْعلُها للذِين لا يُـريـدُون عُلُوّاً في الارْضِ ولا فسَاداً والعاقِبَةُ للمتّقِين}(القصص : 83). إن العُلُوّ في الارض وإفْسادَ الذِّمَم والضّمائر هو ثمرةُ الثّقَة بالدّنيا والنظر إليها على أنها دائِمةٌ، أو ليْس بعْدها مُؤاخَذَةٌ ولا مُساءَلةٌ، وتلك النظرة -مع الأسف- هي التي تكاد تُسَيْطِر على عُقولِ المسؤُولين في البلادِ المُسلمة الذين ينْتَمُون إلى الإسلام رسْماً وشكْلاً، ولا يعْرفونَه روحاً وجَوْهراً، فياويْلَهُم يوم يجدُون أنْفُسَهُم عُراةً من لباسِ التّقْوَى، فيُقال لكل واحد منهم : {ذُقْ إنّك أنْت العزِيزُ الكرِيم إنّ هذا ما كُنْتُم بِه تمْترون}، {إنّ المُتّقين في مَقامٍ أمِين}(الدخان : 48).

فهلْ تتنوّر القُلوبُ بعْد زحْفِ حُجُبِ الجَهْل والظّلم والفَساد والاسْتبْداد؟! ذلك -إن شاء الله- هُو المأمُولُ من ربِّ العِباد.

المفضل فلواتي – رحمه الله تعالى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>