القيم الأخلاقية ودورها في ترشيد السلوك الاقتصادي للمسلم


الأخلاق جمع خُلُق، والخلق: اسم لسجية الإنسان وطبيعته التي خُلِق عليها. وحقيقة الخلق التحلي بالفضائل والتخلي عن الرذائل. وقد دعا الإسلام إلى التحلي بالأخلاق وتنميتها في النفوس لما لها من دور في تهذيب السلوك الإنساني وتقويمه وفقا لأحكام الشريعة وضوابطها، وبناء على مقومات العقيدة ومستلزماتها بحكم أنها تعكس التصورات والمبادئ المشكلة لعقيدة الإنسان، وهو ما عبر عنه الإمام الغزالي بقوله: “الخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية”(1).
أولا : مكــانة الأخــلاق في الـمنظـــومة الإســلاميـة : والإسلام منظومة متكاملة تجمع بين العقيدة والشريعة والأخلاق، لذلك فلا مسوغ أصلا للفصل بين العقيدة والسلوك، أو بين العبادة والمعاملة أو بين الاقتصاد والأخلاق، أو بين العلم والأخلاق. فالأخلاق لحمة الحياة الإسلامية وسداها”(2). ومن خصوصياتها على المستوى التشريعي أنها لا تقبل التجزيء، ولا يمكن حصرها في مجال دون آخر، فهي تشكل أصلا من أصول الدين، وثمرة مجاهدة المتقين، كما تمثل الأخلاق ذلك الجانب الروحي والأدبي الذي أودعه الله في نفوس البشر، وجعله من أكبر العوامل في سعادتهم وشقائهم، وأدق المقاييس للدلالة على ارتقائهم أو انحطاطهم حتى قال بعض علماء الاجتماع : إنما تتفاضل الأمم في حالة البداوة بالقوة البدنية، فإذا ارتقت تفاضلت بالعلم، ثم إذا بلغت من الارتقاء غايته تفاضلت بالأخلاق. ومما يؤكد أهمية الأخلاق من الناحية الشرعية قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الخلق وعاء الدين)(3) ومعنى الحديث أن نسبة الخلق الحسن إلى الدين كنسبة الوعاء إلى ما استقر فيه، فكما أن الماء لا يقوم بنفسه من دون وعاء يضم أجزاءه ويصونها عن التفرق والضياع، كذلك أحكام الدين وتعاليمه لا تقوم بنفسها ولا يدوم سلطانها ما لم تكن في المتدينين أخلاقا ثابتة وأحوالا راسخة. كما بين الرسول صلى الله عليه وسلم أن رسالته جاءت لتكمل مكارم الأخلاق، قال صلى الله عليه وسلم : ((إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)(4).
ومن هذا المنطلق نفهم لماذا حفل القرآن الكريم والسنة النبوية بمجموعة من النصوص الشرعية التي تحث على الاتصاف بمكارم الأخلاق في مختلف المجالات سواء على مستوى العقيدة أو العبادات أو المعاملات. فالدعوة إلى توحيد الله وعبادته تحتاج إلى أخلاق حميدة وعلى رأسها الإخلاص والصدق، كما أن حسن التعامل مع الناس يتطلب الاتصاف بمكارم الأخلاق، والصفات الحسنة من عدل ورحمة وصبر وجود ووفاء بالعهد. ومن الثوابت الأساسية في مجال العقيدة أن الإيمان بالله تعالى يدفع صاحبه إلى التحلي بالأخلاق الكريمة والالتزام بالأعمال الحسنة، فمتى استقر الإيمان في القلب انعكس ذلك على أفعال الإنسان وأقواله. فالخلق السوي دليل الإيمان الصادق، قال سيد قطب: إن الإيمان الصحيح متى استقر في القلب ظهرت آثاره في السلوك، والإسلام عقيدة متحركة لا تطيق السلبية، فهي بمجرد تحققها في عالم الشعور، تتحرك لتحقيق مدلولها في الخارج ولتترجم نفسها إلى حركة وإلى عمل في عالم الواقع(5). ويقصد بالأخلاقية على المستوى الاقتصادي، البواعث النفسية التي ينميها الدين قصد تهذيب السلوك في المعاملات الاقتصادية. ومن منطلق المكانة التي تحظى بها الأخلاق على المستوى الاقتصادي، أصبح الكثير من المهتمين بهذا المجال الحيوي ينادون بضرورة الالتزام بالقيم الأخلاقية على مستوى المعاملات المالية الإسلامية، وأصبح الحديث حاليا عن الاقتصاد الأخلاقي، وأخلاقيات الاقتصاد.
ثـانيا : نمـاذج مـن القيم الاقتصادية فـي الإســلام : يزخر التشريع الاقتصادي الإسلامي بجملة من القيم الأخلاقية التي تحكم الظاهرة الاقتصادية، والتي تضفي عليها طابعا إنسانيا. وتكمن أهمية هذه القيم على وجه الخصوص في كونها تمثل اللبنة الأساسية لنجاح العملية الاقتصادية وتحقق مقاصدها في مختلف مستوياتها، وإن ما يميز القيم الأخلاقية التي تضمنها النصوص الشرعية هو طابع التعدد والشمول، فهي متشعبة الجوانب وذات أبعاد مختلفة، منها ما يرتبط بالجانب النفسي الوجداني ومنها ما يركز على ضبط السلوك الاجتماعي والاقتصادي ومن أمثلة القيم الأخلاقية التي يقوم عليها الاقتصاد الإسلامي ما يلي :
أ- التزام الصدق و الأمانة على مستوى المعاملات: تتجلى أهمية هذه القيم في كونها تحقق الطمأنينة وتوفر الثقة بين المتعاملين، و تعتبر من الأسس التي تقوم عليها المعاملات المالية والاقتصادية في وقتنا المعاصر. فعنصر الائتمان مثلا على مستوى المعاملات المصرفية يمثل حجر الزاوية الذي على أساسه تقوم سائر الخدمات المصرفية، أو بعبارة أخرى فالثقة أو الائتمان هي بمثابة أرضية خصبة لاستمرار المعاملات وازدهارها. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((الـتاجر الصدوق الأمـين مع النبيئـين والصديقـين والشهداء والصالحين)(6) كما وضح صلى الله عليه وسلم أهمية الصدق في تحقيق نتائج ايجابية على مستوى العملية الاقتصادية بقوله:” البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما بيعهما، وإن كتما وكذبا محقت بركة بيعهما)(7). وتمثل الأمانة الأساس الذي ينبغي اعتماده في أية مهمة يتولاها الإنسان، لكي يعصم نفسه من وساوس الشيطان أو من الوقوع في مراتع الحرام، أو استغلال حقوق الضعفاء والأيتام، فهي أمر لازم للإيمان، قال صلى الله عليه وسلم : ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له”(8)، وقال تعالى على لسان ابنة سيدنا شعيب عليه السلام في وصفها لسيدنا موسى عليه السلام: ((يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين)(9). إن الأمانة تمثل إحدى مستلزمات الدين، ومقوما أساسيا للسلوك البشري، فكلما تمسك أفراد الأمة في مختلف معاملاتهم بخصلة الأمانة انتظمت حياتهم وروعيت حقوقهم، وتحققت المصالح الشرعية بما يخدم مصالح العباد في دينهم ودنياهم. أما إذا افتقدت الأمانة فإنه لا محالة ستتعطل مصالح الحق العام للمجتمع، وتنتشر الأمراض الخلقية والنفسية من استغلال وخداع وأنانية، وما يترتب عن ذلك من مظاهر الفساد والانحراف اعتقادا وسلوكا.
ب- الوفاء بالعقد وإتقان العمل : من القيم الأساسية التي يركز عليها التشريع الاقتصادي الإسلامي، توثيق العقود والوفاء بها، يقول تعالى: {يا أيها الذين امنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل}(10). ويقول أيضا : {يا أيها الذين ءامنوا أوفوا بالعقود}(11) ومن المقاصد الشرعية التي تتضمنها عملية توثيق العقود والوفاء بها الحفاظ على مصالح المتعاقدين ووضع حد لكل مظاهر الخداع والتدليس أو أكل أموال الناس بالباطل. كما حث الإسلام أيضا على ضرورة إتقان العمل والإخلاص على مستوى الأداء من خلال التزام الصدق وتجنب كل أشكال الخداع والاحتيال؛ يقول صلى الله عليه وسلم : ((إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه)(12)، ومن مقتضيات إتقان العمل بذل الجهد، واكتساب العلم الكافي، وتخصيص الوقت اللازم عند القيام بالشيء تحقيقا للجودة والدقة. ومن الحكم المأثورة عن السلف الصالح: “لا تطلب سرعة العمل واطلب تجويده، فان الناس لا يسألون في كم فرغ منه وإنما يسألون عن جودة صنيعته”. كما أن إتقان العمل يتوقف أيضا على اجتناب كل وسائل الغش والتدليس، فالغش خداع واحتيال يصدر من البائع أو المتعاقد بصفة عامة قصد الإضرار بالطرف الآخر، وتكون عملية الإغراء هذه إما عن طريق الكذب أو إخفاء العيوب. وهو سلوك محرم من الناحية الشرعية. فعن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم مر على صاحب طعام فادخل يده فيها، أصابته بللا: فقال: ما هذا يا صاحب الطعام؟ قال: أصابته السماء يا رسول الله، قال:” أفلا جعلته فوق الطعام كي يراه الناس، من غش فليس مني”(13).
ج- التسامح والتزام القناعة : تتجلى أهمية التسامح في تيسير المعاملات ورفع الحرج عن المتعاملين، وبث روح التعاون والتوافق، وكذا نشر خصال المودة والرحمة فيما بينهم. من أجل ذلك حث الرسول صلى الله عليه وسلم على هذا الخلق الكريم بقوله: ((رحم الله رجلا سمحا إذا باع، و إذا اشترى، و إذا اقتضى)(14)، أما القناعة فتتجلى في الرضا بالكسب الطيب والابتعاد عن الخبائث والمحرمات، ثم حسن التوكل على الله عز وجل، وتحري الحلال والبحث عن الأفضل بنية صادقة وعزيمة خالصة، بعيدا عن الحسد أو الشعور بنوع من الذل والهزيمة والاستسلام. قال صلى الله عليه وسلم : ((عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له)(15).
د- منح الأولوية للقيم الأخلاقية قبل الاعتبارات المادية: الاقتصاد الإسلامي اقتصاد أخلاقي، لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل مبادئه عن جانب القيم والضوابط الشرعية، فهو محكوم بها وتابع لها، من أجل ذلك لا يمكن لمؤسسة اقتصادية أن تعمد لدراسة الجدوى الاقتصادية لمشروع تمويلي أو استثماري إلا بعد التأكد أولا من تحقق الضوابط الشرعية وعدم تعارض ذلك النشاط سواء في آلياته العملية أو أهدافه مع أحكام الشريعة ومقاصدها، فلا اعتبار للربح إذا كان نتيجة لمعاملات محرمة، فالغاية لا تبرر الوسيلة، وإنما ينبغي أن تكون الوسيلة مشروعة أولا، وبعد ذلك يتم قبول النشاط الاقتصادي ما دام لا يتعارض مع القيم والضوابط الشرعية.
ثالثا : بين القيم الاقتصادية الإسلامية والقيم الاقتصادية الوضعية : بالموازنة بين القيم الاقتصادية الإسلامية والقيم الاقتصادية الغربية نجد اختلافا كبيرا بينهما، فالاقتصاد الغربي مبني على اعتبارات مادية تحركها المصلحة الخاصة والمنفعة الذاتية، فهو لا يعير للأخلاق وزنا، ولا للاعتبارات الإنسانية قيمة، الغاية بالنسبة إليه تحقيق مزيد من الربح، وكل شيء عنده معرض لمبدأ التسليع، ولمقياس العرض والطلب، إنه اقتصاد يعتمد على آليات خاصة قوامها الاحتكار والربا والاستغلال ومحاباة الغني، الشيء الذي يولد مزيدا من الفقر ويكرس الظلم الاجتماعي ويوسع من الهوة على مستوى طبقات المجتمع، فتكون النتيجة هي مزيد من الأزمات الاقتصادية.
وعليه فالنتيجة المستخلصة على ضوء الاعتبارات السابقة والتي يؤكدها واقع الحال هي أن استبعاد الأخلاق والقيم الإنسانية عن المجال الاقتصادي يتسبب في حدوث كثير من الاضطرابات والأزمات المالية والاقتصادية، وهو ما نلمسه بشكل جلي على مستوى الاقتصاد الرأسمالي الذي يعتمد بالأساس على نظام الفائدة وعلى نظام المشتقات المالية والتي تنطوي على كثير من المحظورات الشرعية كالخداع والغرر والقمار والربا. وقد أشاد كثير من خبراء الاقتصاد بأهمية الأخلاق على المستوى الاقتصادي من بينهم على سبيل المثال الخبير المصرفي البريطاني رودني ويلسون الذي قال : “إن البنوك الغربية في حاجة اليوم إلى إرشاد أخلاقي، ذلك لأن الجشع و انعدام الأخلاق هما اللذان تسببا في الأزمة العالمية الحالية”(16). وقال الاقتصادي كورتز : “إن الأسباب الجذرية والجوهرية للأزمة تكمن في الانهيار التدريجي الكامل للسلوك الأخلاقي في كامل الصناعة المالية، وعلى وجه الخصوص اختفاء أي وعي ائتماني مسؤول يعبر عن الاهتمام بمصالح العملاء”(17).

د. محمد الوردي(ü)
———–
(ü) عضو الجمعية المغربية للدراسات والبحوث في الاقتصاد الإسلامي.
1- أبو حامد الغزالي، إحياء علوم الدين. 3 /58. دار الكتب العلمية. بيروت، لبنان.
2- د. يوسف القرضاوي: دور القيم والأخلاق في الاقتصاد الإسلامي، ص:61. مؤسسة الرسالة، بيروت. الطبعة الأولى.
3- الإمام السيوطي، الجامع الصغير. رقم الحديث : 4140. دار الكتب العلمية، بيروت.
4- أخرجه الإمام أحمد في مسنده، رقم الحديث :8595.
5- سيد قطب، في ظلال القرآن 6 / 114
6- أخرجه الإمام الترمذي في سننه، كتاب البيوع، باب ما جاء في التجار وتسمية النبي صلى الله عليه وسلم، رقم الحديث : 1209.
7- أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب ا لبيوع، باب البيعان بالخيار ما لم يتفرقا 3 / 24. رقم الحديث :2110.
8- أخرجه الإمام أحمد في المسند 3/ 135.
9- سورة القصص، جزء من الآية :26.
10- سورة البقرة، جزء من الآية :282.
11- سورة المائدة، جزء من الآية:1.
12- أخرجه الإمام البيهقي في شعب الإيمان 4/434، والطبراني في الأوسط (891).
13- أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم : من غشنا فليس منا “1/99 رقم الحديث:164(102).
14- أخرجه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب السهولة والسماحة في الشراء والبيع 2 / 80، رقم الحديث :2076.
15- أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الزهد والرقائق، باب المؤمن أمره كله خير، رقم الحديث : 2999.
16- د. محمد النوري، التجربة المصرفية الاسلامية باوربا. بحث مقدم للدورة التاسعة عشرة باسطنبول 1430/ص: 1.
17- د أحمد العوران، المخاطر الأخلاقية والأزمة العالمية المعاصرة، مجلة إسلامية المعرفة، ع: 62، ص: 168.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>