مع كتاب الله عز وجل – رسالات الهدى الـمنهاجي في سورة “ق”(9) {وأزلفت الجنة للمتقين..}


قال الله جلت حكمته : {وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}(31- 35.

وعلى منهج القرآن دائماً، بعد كل ترهيب؛ يهُبُّ عبير الأمان على الأنفس المؤمنة، التالية الذاكرة، وقد ارتجفت قلوبها، واختنقت حناجرها، وبلغ بها الفزع ما بلغ؛ فيتنزل روْحُ السلام والتطمين على عباد الله الصالحين.. كلمات تملأ القلب أنسا بالله، وتغمره رجاء في رحمة الله {وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد. هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ. من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب. ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} والإزلاف : التقريب. والمعنى : أن الرحمن -جل ثناؤه- يجعل المؤمنين المتقين يوم الحشر في مكان قريب من الجنة، بحيث يرونها إكراماً لهم وتطميناً. حتى إذا أذِن لهم في دخولها وجدوها بمكان غير بعيد، وساروا إليها سحراً غير بعيد. والسير إلى الجنة في ذاته لذة ونعمة! والطريق إليها -ولو طال- يكون غير بعيد؛ لما يغمره من السرور والأشواق! فلكَ أن تحمل القرب هنا على كل المعاني الحسية والمعنوية! فكل ذلك داخل في هذه الآية الجميلة الكريمة {وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد}.

ويبين تعالى خصال المتقين، التي بها نالوا هذا الكرم العظيم من الرحمن، فكان أول ذلك أن هذا الوعد الموعود هو ما أعدّه الرحمن -جل ثناؤه- لكل عبد >أواب حفيظ<! والأوّاب : الكثير الأوْب، وهو سرعة الرجوع إلى الله عند كل خلل، والمبادرة إلى التوبة عند كل زلل. والأوّاب أيضا هو : العبد الكثير الشوق إلى الرحمن؛ بحيث تطول عليه الأوقات الفاصلة بين فرائض الصلوات، فلا يصبر حتى يملأها بنوافل العبادة؛ ولذلك سميت صلاة الضحى بصلاة الأوّابين(1) وأما الحفيظ فهو : المحافظ على عهد الله، الصائن لحقوقه تعالى، الذي عاش حياته وهو يشعر بأمانة الدين، فهو لها راعٍ على كل حال. فإن زل أو غفل تدارك ما ضاع منه بسد الخلات والثغرات، وتجديد التوبة إلى الله. وإنما يكون ذلك لما وقع في قلب العبد المتقي من خشية الرحمن بالغيب، وهي خصلة أخرى من خصال التقوى، تنضاف إلى هذا المقام العظيم.

والخشية : خوف من عظيم، باعثها هنا معرفة الله بما له من صفات الجلال والجمال! كما قال تعالى في سورة فاطر : {إنّما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر : 28). أي العلماء به سبحانه، العارفون بمقامه؛ ولذلك تعلقت الخشية هنا في سورة >ق< باسمه تعالى : الرحمن! وهو من أدل الأسماء وأجمعها على التعريف بالله رب العالمين. فخشية الرحمن إذن لا تكون إلا عن معرفة بالله وعلم به تعالى. وأما كونها واقعة بالغيب، فمعناه أنها خشية إيمان وإخلاص واقعين بالحياة الدنيا، أي قبل انكشاف الحُجُبِ في الآخرة. فالحياة الدنيا كلها حُجُب ابتلائية في طريق الإيمان، لا تنكشف حقائقها إلا بموت الإنسان، أو عند ظهور العلامات الكبرى لقيام الساعة. ومن ثم فإن خشية الرحمن بالغيب راجعة إلى عمران القلب بالإيمان إلى درجة اليقين! حتى يصير العبد يحيا مع ربه أبداً، في خلواته وجلواته! حتى إنه ربما ذكر مولاه في خلوته ففاضت عيناه! كما في الحديث : >ورجُلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه!إنابة القلب< هي الخصلة الخاتمة لهذا النموذج الإيماني الكريم، وقد ورد التعبير بها ههنا بأسلوب جليل، فيه دلالة عميقة على كمال الخضوع وتمام الاستسلام لرب العالمين، والسير الذلول إلى الله… تماماً كسير السماء والأرض إلى رب العزة لما ناداهما جل جلاله : {ائِْتيا طوْعا أو كرها قالتا أتينا طائعين}(فصلت : 11).

ومن ثم فهو يصور هنا مجيء العبد إلى ربه يوم القيامة مستجيباً مطيعاً، يجيء بقلب تملؤه الرغبة والرهبة، والخوف والرجاء، والخشية والمحبة؛ بما عرف من مقام ربه العظيم! وذلك كله هو الإنابة… حيث يجيء المؤمن التقي >منيباً<! أي راجعاً إلى سيده بهذا القلب الثابت على طاعة مولاه، المستمر على ذلك حتى ساعة ملقاه! ويُختَمُ المقطع كله بإعلان خبر الفوز بجائزة الرحمن… إنها لهؤلاء المتقين، الأوّابين، الحفظَة لعهد الله، الذين يخشون الرحمن بالغيب، ويثبتون على ذلك حتى يلقوا ربهم بقلوب منيبة! أولئك هم الفائزون، الذين أزلفت لهم الجنة غير بعيد… يقال لهم الآن : {ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود. لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.. فهو دخول كريم مكرّم، إنه ترحيب من الرحمن وأمان منه عظيم. فدخول الجنة بسلام هو دخول إليها من غير سابقة عذاب، وهو أيضا دخولٌ معطَّرٌ بسلام ملائكة الرحمن… كما ورد في قوله تعالى :{وسيق الذين اتقوا ربّهم إلى الجنة زمرا حتى إذا جاءوها وفتحت ابوابها وقال لهم خزنتها سلام عليكم طبْتم فادخلوها خالدين}(الزمر : 73). و

قال هنا في >ق< : >{ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود}، والتعبير بإضافة >يوم< إلى >الخلود<، بهذه الصيغة المصدرية الجامعة، فيه دلالة على الثبات والاستمرار، وعلى الاستقرار السرمدي في نعيم الجنة المقيم، الذي لا يُخْشى له زوال ولا انقطاع، وليس يهدده نفادٌ ولا موت أو فناء. فالجنة بما فيها ومن فيها وجود أبدي خالد، وذلك هو النعيم الحق، والسعادة الكاملة المطلقة؛ ولذلك كان التعبير ههنا باسم الإشارة >ذلك< دالاّ على معنى الشرف والرفعة والفوز العظيم! وقطعاً لكل وسواس أو هاجس، قد يلقي في النفس احتمال نفاد النعيم؛ عزز الرحمن خبر خلود الجنة بقوله تعالى :{لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد}.. هكذا أهل الجنة -جعلني الله وإياكم من أهلها- ينالون كل ما يشتهون، من غير قيد ولا شرط! فيكفي أن تشتهي الشيء حتى يكون بين يديك في أقل من طرفة عين! حاضرا جاهزاً كما اشتهيت وأعلى! وإن الخيال ليعجز عن متابعة ألوان النعيم المكنون في الجنة! وإن الأنفاس لتتقطع دون الإحاطة ولا بنعمة واحدة من نعمها الغامرة الوفيرة! ثم يبهر الرحمن جل ثناؤه القلوب، لما يختم الآية بقوله تعالى : {ولدينا مزيد}..! وهل بقي بعد هذا كله من مزيد؟ وأنّى للمؤمن أن يستنفد هذا النعيم الأبدي، الذي لا يحصيه عدّ ولا يحصره خيال؟ إن نعيم الجنة لا ينفد ولا يفنى، نعم، ولكن مع ذلك هناك مزيد…! إنه النظر إلى وجه الله العظيم! وفيه من اللذة الغامرة والاستمداد العظيم لجمال النور، ما تضيق عن وصفه العبارات! فعن صُهيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : >إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، يقول الله تبارك وتعالى: تُريدون شيئا أزيدُكُم؟ فيقولون : ألمْ تبيّض وجُوهنا؟ ألمْ تُدخلنا الجنة وتنجّنا من النّار؟ قال : فيكْشف الحجاب؛ فما أُعْطوا شيئا أحبّ إليهم من النّظر إلى ربّهم عز وجل!< ثم تلا (النبي صلى الله عليه وسلم) هذه الآية : {للّذين أحسنوا الحُسنى وزيادة}(يونس : 62)<(رواه مسلم)، وهو أيضا تفسير عبارة >مزيد< في سورة >ق< ههنا، على ما ذهب إليه المفسرون(2).

إن كلمات القرآن في وصف الجنة وخيراتها، وبيان كراماتها الخالدة، لتختزل من جمال النعيم ما لا طاقة للعقل البشري على استيعابه هنا في هذه الحياة الدنيا! وما أصدق عبارة النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العزة، قال : >قال الله تبارك وتعالى : أعْددْتُ لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أُذن سمِعت، ولا خطر على قلْب بشر!<تمتفق عليه)، فاللهم ربنا إنا نسألك برحمتك الواسعة، أن تجعلنا من عبادك الصالحين، وأن تدخلنا الجنة بغير حساب، ولا سابقة عذاب! آمين!

فريد الأنصاري رحمه الله تعالى

——

1- عن زيدد بن أرقم رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: >صلاة الأوّابين حين ترمض الفِصال< يعني من الضحى (رواه مسلم).

2- ن. تفسير الطبري وابن كثير للآية.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>