اعْتَصِمُوا بالله تتَحَقَّقْ لكُمْ الوحْدَة الحقيقيّة


اتحـادُ الأمّـة الـمسْـلـمة فــرْضٌ ديـنـيٌّ ومـصْـلَـحِـيٌّ ودَعَـويّ :
أمّا دينيٌّ فلأن الله عز وجل جعلنا أمة، وأمــرَنا أن نتّحِد لنَكُــون أمّــةً. وهـذه بعض النصوص التي توجب علينا أن نكون أمة :
1) نحنُ ثمرة دعْوة سيّدنا إبراهيم \ الذ ي دعا وقال : {ربَّنَا واجعَلْنا مُسْلميْن لكَ ومِن ذُرِّيتنا أمّة مُسْلمة لك}(البقرة : 128) بلْ أكثر من ذلك طلب من الله تعالى ألاّ يتْرُك الأمة من نسْلِه الدِّينِي والدّعوي همَلاً بدون قائدٍ يقودُها للقيام برسالتها، فقال : {ربّنَا وابّْعَثْ فِيهِمْ رسُولاً مِنْهُم يتْلُو علَيْهم آيَاتِك ويعَلِّمُهم الكِتابَ والحِكْمة ويُزَكِّيهِم}(البقرة : 128).
ومن العار أن نتخلَّى عن أمّةٍ صنَعَها الله تعالى في عالم الغيب قبْل أن توجَدَ بقُرون وقرون. إنّه عُقوقٌ لنعمة الله عز وجل ما بعْده من عقوق!!!
2) وعندما تحقَّقَتْ الأمّةُ بقَائِدِها وجُوداً في زَمنها المقدَّر، قال لها -تنْصِيباً رسْميّاً- لممارسَة وظيفَتها التي لها وُجِدَتْ، ولَها وحْدَها كانتْ {وكَذَلِك جَعَلْناكُم أمّةً وسَطاً لتكُونُوا شُهَدَاء على النّاسِ ويكونَ الرّسُولُ عليْكُم شَهِيدا}(البقرة : 143) ومن العَار التخلِّي عن الشرفِ الربّاني الذي طوَّق الله بهِ الأمة.
3) ذَكَر الله عز وجل الأمة بصِيغةِ الوحْدَة صراحةً مرّتين في القرآن مع تِبْيانِ الهَدَفِ الموحِّد لها، فقال : {إنّ هَذِه أمَّتُكُمُ أمة ًواحدةً وأنا ربُّكُم فاعْبُدون}(الأنبياء : 92) {وإنّ هذِه أمّتُكُمُ أمةً واحدةً وأنا ربُّكُم فاتّقُون}(المومنون : 52) ومن العار خرْقُ سِياج الوحْدة الذي سيَّجَهُ اللّه تعالى بها لتكُون آمنة داخِلهُ، ومتحصِّنةً به من كلِّ الآفاتِ والنكَباتِ.
4) أمرَ الله عز وجل الأمة أمراً صريحاً بالتوحُّد، ونهاهَا نهْياً صريحاً عن التفرق، فقال : {واعْتَصِمُوا بحَبْلِ اللّه جَمِيعاً ولا تفرَّقُوا}(آل عمران : 103)، ومن العُقُوق الكَبير : التمرُّدُ على الله عز وجل وعصْيانُ أمره ونهْيه. أما الفرض المصْلحِيّ فالقوةُ الحقيقية للأمة هِي قُوةُ الوحْدة، إذْ مهْما تسلحت الدّولُ المُسلمة، ومهْما أنشأتْ من قوّة العَسْكر، وقوةِ الأمن، وقوّة المخابرات، وقوة القانون، وقوة المحاكم والسجُون والمعتقلات، وقوة الإرهاب الفكري والثقافي والإعلامي والنفسي، فإن ذلك لا يؤسِّسُ أمْناً، ولا يزْرَع اطْمئناناً، ولا يرُد بأساً، ولا يرْدَعُ عَدُوّاً، ولا يجْلُبُ هيْبَةً، ولا يصنَعُ وقاراً واحتراماً واعتباراً محلّياً وعالميّاً… وإنما يصْنعُ ذلك وأكثَر من ذلك الوحْدةُ على أسَاسِ الهدف المرسوم، والوحدةُ على أساس أداء الرسالة، والوحدةُ على أساسِ النيابة عن الله عز وجل في إقامة الحق، وتوزيع العدْل بين الناس.
ألم يقل الله تعالى {ولا تَنَازَعُوا فتَفْشَلُوا وتذْهَبَ رِيحُكُم}(الأنفال : 47) وهلْ هناك دلاَلةٌ أقوى على ذَهَابِ الرِّيح، وخِفَّة الوزْن المحليّ والدّولي مِن أن تكون أمّةُ المِلْيار وزيادة لا اعتبارَ لَها أبداً في أي مجلس من المجالس الدّولية بينما حُثالات بملايين معْدُودة يتحكّمون في مصائر المسلمين وكل المستضعفين بدون حق، ولا سندٍ شرْعي أو عُرفيّ أو قانوني؟!! رضِي من رضِي، وأبَى من أبَى، بل من أبَى فلْيَسْتفَّ التُّراب أو ليَنْطَحْ الحائط.
أمّــا الفرض الدّعويُّ فإن الله تعالى قال : {ولْتَكُنْ مِنْكُم أمّةٌ يدعُون إلى الخَيْر ويامُرُون بالمعْروفِ وينْهَوْن عن المُنْكر وأُولئِك هُم المُفْلِحُون}(آل عمران : 104) إذ الدّعوةُ الفرديّة تأتي بالخير الكثير، ولكن الدّعوة التي هي وظيفةُ الأمة أساساً لا تثمِرُ الإثمارَ المطلوب إلا إذا قامتْ بها الأمة لما تتوفر عليه من الإمكانات التي لا تتيسَّرُ للأفراد مهْما بذلُوا وأبدعُوا، فأداءُ رسالةِ الأمة هي التي توحّد الأمة، وتعطيها قوةً واعتباراً، وهي التي تمنحُها نفوذاً أدبيّاً واحتراماً وتقديراً. فإذا تخلَّتْ عن الدّعوة تخلّتْ عن رُوحِها وقوتِها، بل تخلّتْ عن أساسِ وجود كِيانِها، وأساسِ صِبغتها المميزة لها من دون الناس.
هـدَفُ التـوحُّـدِ ومحْـورُه :
إنّ كُلّ مشروع سواء كان صغيراً أو كبيراً لابُدّ أن يَكُون مُرتكزاً -لينْجَحَ- على أهدافٍ صغيرة أم كبيرة، بعيدة المدى أم قريبة المدَى، سامية الهَدَف أم سافِلته. ومشروع الدّعوة أسْمَى مشروع، لأنه مشروعُ الإصلاح للإنسانية كُلِّها وإنقاذِها من الزيغ والضّلال، وهَلاَك الأنفس هلاكاً أبَدِيّا إذا لم تتداركْها رحمة الله بالهداية والصلاح والفلاح.. فما هو هَدَف التوحُّد؟! هدَفُ التوحُّدِ :
أ- عقيدةً : هو عبادةُ الله تعالى وحدهُ لا شريك له بكل صِدْقٍ وكُلِّ إخْلاصٍ، مع محَبَّتِه عز وجل محبّةً فوْقَ محبة الأنفُسِ والأولاد والأموال، لأنّه سبحانه هُو واهِبُ الحياة، وواهِبُ الأزْواج والأولادِ والأموالِ، وهذا الهَدَفُ هو الذي أمر الله عزو جل بالمناداةِ به كُلّ الناس، وبالأخصِّ أهْلَ الكتاب، قال تعالى : {قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ تعالَوْا إلى كَلِمَةٍ سواءٍ بيْنَنَا وبَيْنَكُم ألاّ نعْبُدَ إلاَّ اللّه، ولا نُشركَ به شَيْئاً ولا يتّخِذ بعضُنا بعْضاً اربَاباً من دُونِ اللّه فإنّ توَلَّوْا فقُولُوا اشْهَدُوا بأنّا مُسْلِمُون}(آل عمران : 63).
ب- عبادةً وسلُوكاً : إقامة الصلاة وأداؤها بخشوع، وتقوى الله في السر والعلانية، والابتعادُ عن انتهاكِ الأعراض ونشر الفاحشة، وإنفاق الأموال في كل ما يفيد الفرد والمجتمع ويقدمهما علما وثقافة وصناعة وإعداداً، والحفاظ على كل الأمانات : أمانة الدين، وأمانةِ الزوجة والأولاد، وأمانة الجار والأقرباء، وأمانة الوظيفة والحكم والسياسة والإعلام والاقتصاد… بعض هذا قد جاء في قوله تعالى : {قدَ افْلَح المومِنُون الذِين هُم في صلاَتِهِم خاشِعُون والذِين هُم عنِ اللّغْوِ مُعْرِضُون والذِينَ هُم للزَّكَاةِ فاعِلُون والذِين هُمْ لفُرُوجِهِم حافِظُون…. والذِينَ هُم لأمانَاتِهِم وعَهْدِهِم رَاعُون والذِينَ هُمْ على صلَواتِهِمْ يُحَافِظُون}(المومنون : 1- 9).
جـ- شريعةً : التحاكُمُ في كُل شُؤونِهِم الأسروية والاجتماعية والسياسية والتخاصمية والحدودية والتعزيرية والتأديبية إلى شرع الله الذي يتضمنه كتابه وسنة نبيه {وأن احْكُمْ بيْنَهُم بِما أنْزَل اللّه ولا تتّبِع أهْواءَهُم}(المائدة : 51).
د- غايةً : الطمع في رضوان الله تعالى وما أعدّه للصالحين، من عباده في دار الكرامة، ودار السلام، ودار الرضوان، ودار الفوز بنعمة الخلود في النعيم المقيم {أُولئِك هُمُ الوارِثُون الذِين يرِثُون الفِرْدَوْس هُم فِيها خَالِدُون}(المومنون : 10- 11).
هـ- دعوةً : لأن الدعوة هي وظيفةُ الأمة الأساسية لإقامة حُجَّة الله تعالى على خلْقِه، فهي وجْهُهَا الذي تُعْرفُ به من دُون النّاس، فإذا تركَتْ الدّعوة أصبحتْ كبَقية الناسِ، بلْ أصْبَحَتْ دُونَ باقي النّاس، وجرَى عليها ما جرَى على الأمّة التي غَضِب اللّه عز وجل عليها، فقال فيها {لوْلاَ ينْهاهُم الرّبّانِيّون والأحْبارُ عن قوْلِهِم الاثْم وأكْلِهِم السُّحْت لبِيسَ ما كَانُوا يصْنَعُون}(المائدة : 65) بلْ وجرَى على عُلمائها المُتهافِتين على الدنيا ما جرى على عالم بني إسرائيل الذي قال فيه تعالى : {واتْلُ عَلَيْهِم نَبأَ الذِي آتَيْناهُ آيَاتِنَا فانْسَلَخَ مِنْها فأتْبَعَهُ الشّيْطانُ فكَانَ من الغَاوِينَ ولوْ شِئنَا لرَفَعْنَاهُ بِها ولكِنَّهُ أخْلَد إلى الارْض واتّبَع هواهُ فمَثَلُه كمَثَل الكَلْب إن تحْمِلْ علَيْه يلْهَث أو تتْرُكْه يلْهَثْ ذَلِك مثلُ القوْمِ الذِين كَذَّبُوا بآيَاتِنا فاقْصُصِ القَصَص لعَلّهُمْ يتفَكّرُون}(الأعراف : 176) فليْسَ كالدعوة موحِداً وجامعاً ومُنْهضا ومميِّزاً للأمة، ومُعرِّفا بهدفها وسلوكها وعِلْمها وثقافتها.
عـوائِـقُ الـتّـوحُّـد :
العوائقُ كثيرةٌ جداً، لكنّ أمّ العَوَائِق :
العلْمانيّة : أي علْمنةُ سَيْر الحياة، وإدَارتُها في كلِّ المجتمعات المسلمة في غيْبةٍ تامّة عن أمْر الله وشرْعِه، أيْ مبارزَةُ الله تعالى بالتمرُّد، وإعْلان الحرْب والعِصْيان عليه، والتجرُّؤ الوقِحِ عليه -سبحانه وتعالى- بإعْلان سحْبِ حقِّ الحُكْمِ والتّدْبير لمُلْكِه الذي خَلَقهُ وحْدَه، وجعَلَه -بفضْله- مُسخّراً للإنْسان ليسِير فيه وفقَ أمْره وشرعِه، ولكنّ الإنسان الجاهِل يطْغَى بمُجرَّد امتلاكِ حفْنةٍ من مالِ اللّه، فيَظُنُّ أنَهُ بذلك اسْتَغٌْنى عن اللّه تعالى في كُل شأنٍ من شؤون نفسه، وشؤون حياته، وشؤون دنياه، وشؤون التصرُّف في مُلك مولاه. وبذلك تنْفتح أمام الإنسان أبْوابُ الأهواء على مصراعيها، فلا مرْجِعية موحَّدة، ولا هَدف موحّد، ولا مُوالاةَ موحّدة، ولا تصوُّرات موحّدة، ولا اهْتمامات موحّدة، ولا منطلقَات موحّدة، ولا مُعْتَقدات موحّدة، ولا مبادِئ موحّدة على أساسِها يتمُّ الإيخاءُ والتّعاوُن أو التّعادِي والتنابُذ… أهْواءٌ، فأهْواءٌ، فأهْواءٌ، بدون حُدُودٍ ولا كوابحَ وضوابط. وقد تجسّمَتْ هذه الأهْواءُ في المجتمعات المسلمة :
> على أشكال التهافُت على الدّنيا بكل زخارفها ومغرياتها وشهواتها، وهؤلاء المتهافتون لا يُرجى منهم أن يرْفعُوا رأساً بدعوة لإعلاء كلمة الله تعالى.
> على أشكالِ الشّرْك السياسي، حيث زيّن الشيطانُ للمشركين شركاً سياسياً بأنهم يستطيعون من خِلال العَفَن السّياسيّ أن يحطِّمُوا أصنامَ السلطة والمال لدَى سدَنتها، فيجرُّوهم للضّفة الطاهرة، فكانت النتيجة أنهم غرِقوا إلى الأذْقانِ في وحَلِ التجاذُب الذميم، والتنافس المُشوِّه للغاية والكرامة، هؤلاء خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئا عسى الله أن يوقظهم فينفع بهم.
> على أشكال الموالاة لأعداء الله صراحةً، الذين نهانا الله عز وجل عن موالاتهم صراحةً، فأصْبح الموالون لهم لا يقطعُون أمراً بدونهم، ولا ينْهِجُون سياسةً بدون إرشادهم، هم المرجعية العُلْيا، وهُم السلطة العُلْيا، ولوْ تصادَم كُلُّ ذلِك -صراحة- مع دين الله وأمره وشرعه. هؤلاء أمْرُهم بيد غيرهم لا يُرجى منهم العملُ لوحْدة، ولا العملُ لدَعوة، ولا العملُ لنهضة، مادامُوا لمْ يتبرَّأوا من عِبادة الأصنام البشرية الجوْفاء. > على أشكال الزعامات المتكبرة المغرورة التي تكاد تظُنُّ أن الوحيَ ينزل عليها، وأن الله عز وجل بعثَها لإخراج الموْتَى من القبور، ولا تدْري أنها إنما تعْمَلُ لزيادة تكْدِيسِ الموتى المدْفونين في قُبور الضمائر، وقبور الاستبداد، وقبور السَّحْق والشنق.
ولا يقل خطراً عن هذه الزعامات زعاماتُ الانغِلاقِ الشّامِل الذي أصْبح صنماً يُعْبَدُ من دون الله، فالزعامات المتكبرة والمنغلقة لا يُرجى منها -في الوقت الحاضر- التنازل عن ذاتيتها، والتواضعُ لروح الإسْلام المتَسامِح المنْفتح على كل الطاقات لبناء وحْدةٍ شاملة لا عُلُوّ فيها ولا اسْتِكْبار، ولا غلوّ فيها ولا احْتكار. والحَلّ أحد أمرين :
أولهما : الانضمامُ إلى جَوْقَة العملاء، والمتهافتين على الدنيا والسلطة والمال تحت أقدامِ عتاة الإجرام، وآنذاك : سلامٌ على الأوطان والأعراض والمقدسات وكل أصوات الخير والمعروف والعدْلِ والإحسان.
ثانيهما : الانضمام للجياع الحُفاة العُراة الصامدين في أجْوافِ الأخطار، وأحْدَاقِ الموتِ الشريف المتربِّص بهم في الليل والنهار. لا اعتماد لهم إلا على الواحد القهار، وسُنَنُ الله تعالى الأزلية تقول لهؤلاء : {ونُرِيدُ أنْ نَمُنَّ على الذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الاَرْضِ ونجْعَلهُمُ أئِمّةً ونجْعَلهُمْ الوَارِثِين ونُمَكِّن لهُم في الارْض}(القصص : 5) كما تقول لهم {واذْكُرُوا إذ اَنْتُم قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُون فِي الاَرْضِ تخَافُون أن يتَخَطَّفَكُم النّاسُ فآوَاكُمْ وأيَّدَكُمْ بنَصْرِه ورزَقَكُمْ مِن الطّيّبَاتِ لعَلَّكُم تشْكُرُون}(التوبة : 26). وآنذاك تتحقق الوحدةُ : وحدة الثابتين الربّانيين الصامدين المصنوعين بقدر الله وفضله.

المفضل فلواتي – رحمه الله تعالى

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>