إن الله تعالى عندما قال : {فإنَّها لا تعْمَى الابْصار ولكِنْ تعْمَي القُلُوب التي في الصُّدُور}(الحج : 46). وضعَ أيْدِي الأمّة على مكانِ الدّاءِ وهو القلْبُ الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ((ألا وإنّ في الجَسد مُضْغةً إذا صَلَحَتْ صَلَح الجَسَدُ كُلُّه وإذا فَسَدتْ فسَدَ الجسد كُلّه ألا وهِي القَلْب))(متفق عليه). لأن الله عز وجل لا ينظُر إلى صُورنا وأشكَالِنا وحرَكات جوارِحنا ولكن ينْظُر إلى قُلوبنا المتحكمة في الأشكال والصُّور وأعمال الجوارح، فالصّلاة الصادِرَة عن قلْبٍ مُنافق مُراءٍ لا تساوي ذرَّةً في ميزان الله تعالى، وكذلك الصيام والحجُ وكُلّ أعمالِ البِرِّ.
ثم إن المحاسبة يوم القيامة ستكونُ على ما تُضْمِره القُلوب والسرائر {أفلا يعْلمُ إذا بُعْثِر ما في القُبُور وحُصِّل ما في الصُّدور}(العاديات : 10) {إنّه على رجْعِه لقادرٌ يوم تُبْلَى السّرائِر}(الطارق : 9). بلْ أكثرُ من ذلك نجِدُ أن اللّه تعالى بيّن لنا أنه لا يُنْجي المسلم يوم القيامة من العذاب، وينْفعُه في الظّفر برضوان الله إلا الإقبالُ على الله عز وجل بالقلْب السّليم الخالي من الشركِ والنفاق {يوْم لا ينفَعُ مالٌ ولا بنُونَ إلا من اتى الله بقلبٍ سليم}(الشعراء : 89) ولإيجاد هذا القلب السليم كانتْ ((لا إلَه إلاّ اللّه)) معْتَقَداً، وكانتْ الصّلاةُ والصيامُ والحجّ مُتعبّداً، وكانت الزّكاة تطهيراً من الجشَع والبُخْل وعبادَة المالِ، وعبادَة الدّنيا التي لا دوامَ فيها ولا خُلُود. فلِماذا نجد الشّعوبَ المُسْلمة تصُومُ وتُصَلّي وتحُجُّ ومَع ذلك يُعَشِّشُ فيهَا الغِشّ والكذبُ والخيانَة؟! ويتفشَّى فيها الإجرامُ والطغْيانُ والتسلّط؟! وينتشِرُ فيها الاستبدَادُ والأثَرة وعبادةُ المصلحةِ الشخصية؟! السّبَبُ أنّ تلك العبَادات مُجرَّدُ صورٍ وأشْكالٍ لأداءِ تِلْك العبادات، وليستْ عباداتٍ حقيقيّةَ، فإذا كان الله تعالى يقول {وأقِم الصّلاةَ لذِكْرِي}(طه : 13) ويقول : {إنّ الصّلاةً تنْهَى عن الفحْشاءِ والمُنْكر}(العنكبوت : 45) فهلْ يسْتقيمُ في العقْل أن ترَى الفواحِش والمنكرات الكبيرة يتصدّر قوائِمَها كبارُ القوْم من المُصَلِّين والحُجّاج والمعتمرين؟! فمنْ يَسْرق الملايير من المالِ العام؟! ومن يأخذ الرّشاوى بالملايين؟! ومن يُتاجِر في الخمور والمخدّرات ومنْ يبْني العِمارات ويسْتَولي على الهكتارات؟! ومن يحْكم على الضّعفاءِ والمحرومين بأفْدَحِ الغراماتِ، وأقسى العقوبات؟! ومن يصادِر الحرّيات ويفْتَحُ الزّنازِين والمعتقلاتِ؟! ومنْ يُميِّع الأخلاق َويُفْسِد سُلُوك الشّباب والشّابات، ومنْ يخْدعُ الشعوب بالإعلام المُصنِّم للذوات والشّخْصياتِ؟! و من يُوالي أعداءَ الله وأعداءَ الدين، وأعْداءَ الأمّة؟! ومنْ يَبِيعُ قضَايا الأمّة والأوطان بأبخسِ الأثمان؟! إنّ الشعوب والمُجْتمعات المسلمة في حاجةٍ إلى مراجعة جذريّةٍ للقلوب لتنْقيتِها من الأمراض التي أفْسَدَت الأمّة وجعلتْها غارقةً في التبعيّة الذليلة لِقُوى الكُفْر المُبْعِدَةِ عنْ معْرفة الله تعالى وتقوْاه بصِدْقٍ وإخلاصٍ، في السِّرِّ والعلانية، في الظاهِر والباطِن، في السّرّاء والضراء. مراجعة جذرية لعلاقَتها بالكُفْر والكافرين، والنفاق والمنافقين. مراجعة جذرية لعلاقتها بثقافة المستعمر والمستعمرين، وثقافة الانهزام والمنهزمين. مراجعة جذرية لعلاقتها برب العالمين، وقرآن الرحمن الرحيم الذي أنزله الله على الأمة لهداية العالمين!! وإسعادهِمْ يوم الدِّين!! وهذا لا يتحَقَّقُ إلاّ بالانتقال من الأكْوان إلى المُكوِّن، ومن المخلوقات إلى الخالق، ومن النِّعَم إلى المُنْعِم، ومن الأمْر إلى الآمر، ومن النصْر إلى النّاصر. ومن العافِيَة إلى المُعافِي، ومن الحمْد إلى المحْمُود، ومِن الشكْرِ إلى المشكور… ليتحَقَّق الإحْسَان في العبادة، الإحْسان الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((أن تعْبُدَ الله كأنّك تراَهُ، فإن لم تكُنْ ترَاهُ فإنه يَراك)). فالصلاة بدون حُضُور القلْب المستحضِر لعظمةِ الله الذي تعنُو له الوجوه والجباه، وتخشعُ له الجوارح والجلود والمشاعر هي صلاة ميتَةٌ. والصيام بدون صيام القلْب عن جميع الشهوات والمفاسِد هو صيام بارِدٌ، وقراءَة القرآن بدون اقشعْرار القلوب من خشيةِ الله تعالى قراءة باردة. فاسْتحضارُ عظمةِ اللّه تعالى في الحركةِ والسكون، في التفكِير والتدْبير، في القوْل والفعل، في الصلاة والتسْبِيح، في الإقبال بلذّةٍ وشوْق على تنفيذ ما أمر الله تعالى به، وفي الإقبال بلذة وشوق على ترك ما نهى الله عنه، في الإقبال على التحدِّي باللّه كُلّ قُوَى البغْي والطّغْيان، وكُلّ نوازِع الشّرِّ والبُهْتان هو العبادة. بل استحضار عظمة الله تعالى ومقامهُ في كُلّ شيء هو لُبُّ العبادة، وجوْهَرُ العبوديّة الخاشعة لربِّ العِزّة غير المتناهية {وأمّا من خَافَ مقامَ ربِّه ونهى النّفْسَ عن الهَوَى فإنّ الجنّة هي المَأْوَى}(النازعات : 39-40). والوصول إلى هذا :
> يتطلّب تعْليماً خاشِعاً يبْدأ من {اقْرأ باسْم ربِّك} إلى {وأتممْت عليكم نعمتِي ورضيتُ لكم الاسْلام دينا} مُروراً بـ : {ومنْ يبْتَغِ غيْر الاسلام ديناً فلنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وهُو في الآخِرة من الخَاسِرين}.
> ويتطلّب إعلاماً خاشِعاً يبْدأ من {وإلى ربّك فارغَبْ} إلى {كلاّ لا تُطِعْهُ واسْجُدْ واقْتَرِب} مروراً بـ : {إنّ الذِينَ آمنُوا وعِمِلوا الصّالحات أولئك همْ خَيْرُ البرِيئة} و{ذَلِك بأنّ اللّه موْلَى الذِين آمَنُوا وأنّ الكَافِرِين لا موْلَى لَهُم}.
> ويتطلب قيادة صالحة تبدأ من : {ربِّ أوْزِعْني أن اشْكُر نعْمَتَك التِي أنْعَمعت عليّ وعلَى والِدَيّ وأنْ اعْمل صالحاً ترْضاهُ وأدْخِلْني برحْمتِك في عِبادَك الصّالحين} إلى : {هذَا مِن فضْل ربِّي ليَبْلُونِي آشْكُر أم اكْفُر ومن شَكَر فإنّما يشْكُر لنَفْسِه ومَنْ كَفَر فإنّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} مروراً بـ : {إنّ خَيْر من اسْتَاجَرْت القوِيُّ الامِينُ} وبـ : {اجْعَلْني على خَزَائِن الارْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ}. فإذا توافر التعليم الصالح والإعلام الصالح، والقيادة الصالحة، نرجُو أن تنْصَلِح القُلُوب، وتُرتِّق القناعَة الجُيُوب، وتُطهِّر مراقَبَةُ علاَّمِ الغُيُوب النّفُوسَ من كُلّ الأوساخ والأدْران والعُيُوب ألمْ يقُلْ صلى الله عليه وسلم : ((لا يسْتَقِيم إيمانُ عبْدٍ حتّى يسْتَقِيم قلْبُه))(رواه أحمد). وألَمْ يقل الله تعالى : {إنّ الذِين هُم من خَشْيةِ ربِّهم مُشْفِقُون والذِين هم بآياتِ ربِّهِم يومِنُون و الذِين هم برَبِّهِم لا يُشْرِكُون والذِين يوتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهم وجِلَة أنّهُم إلى ربِّهِم رَاجِعُون أُولئِك يُسارِعُون في الخَيْراتِ وهُمْ لَها سابِقُون}(المومنون : 57- 62).
المفضل فلواتي – رحمه الله تعالى