واجبنا نحو التربية والتعليم


الخطبة الأولى
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم…… أما بعد : عباد الله فاتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، فإن تقوى الله جل جلاله هي الحصن الحصين الواقي من غوائل الفتن والشرور، ما ظهر منها وما بطن، وهي التي تنير لك الطريق المستقيم الذي ينجو من سلكه، ويفوز من انتهجه، ولكن التقوى أخي المسلم لا تتم ولا تتأسس قواعدها إلا بالعلم النافع الموروث عن الرسول المبعوث بالهدى والرحمة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم الذي حث أمته على تعلم العلم النافع وتفهمه والعمل به. معاشر المسلمين : لقد أرشدنا القرآن الكريم مبيناً لنا أن العلم هو الأساس للعمل، وأنه لابد أن يتقدم عليه حتى يكون العمل مبْنِياً على أصل من الشرع المبين، وعلى خير من هدى الله المستقيم. يقول الحق جل وعلا : {فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك}(محمد : 19) فأمر سبحانه بالعلم أولا بقوله : {فاعلم} ثم ذكر العمل بعده، بقوله : {واستغفر لذنبك} إذ الاستغفار نوع من العمل الذي يصفه العلم ويأمر به، والآية فيها دلالة واضحة على شرف العلم ومنزلته وأهميته.
لقد انتشر العلم والتعلم في هذه الأزمنة بفضل الله تعالى، انتشاراً واسعاً في أغلب البلدان وفي بلادنا أيضا، وقد تعددت المدارس والمعاهد والجامعات وكليات التربية، ويقوم على التدريس فيها أساتذة ومعلمون وأطر تربوية وإدارية أفاضل يُدرِّسون مختلف التخصصات العلمية، على مناهج سليمة في أغلبها، والحمد لله على ذلك، إلا أن البعض منهم قد لا يقوم بواجبه كما يحب الله ويرضى وقد يركز في تدريسه على المادة العلمية فقط دون الاهتمام بالتربية الإسلامية، القائمة على تهذيب الأخلاق والسلوك وتقوية الأرواح والهمم، وغرس العزة والكرامة في النفوس، وإن العلوم المدرسية شرعية كانت أم مما يحتاج إليها المجتمع من العلوم الأخرى، لابد لها أن تحاط بسياج قوي من العمل بالأوامر الإلهية، والتوجيهات النبوية، والتحلي بالأمانة والصدق والإخلاص، والتخلق بأخلاق القرآن الكريم، والشمائل النبوية، وينبغي حث التلاميذ والطلاب على الاتصاف بهذه الصفات التي هي من مكارم الأخلاق وما اشتملت عليه من الحِلْم والصبر والتحمل والبعد عن الصفات الذميمة والاتبلاءات والبلايا التي ابتلي بها اليوم كثير من الشباب كالقول الفاحش والتبرج والسفور والتعاطي لبعض الآفات الخطيرة. كشرب الدخان والحشيش والخمر والزنا والاختلاط وغيرها. وإن المار أمام مؤسسة تعليمية يرى بأم عينيه ما يندى له الجبين ويدمي القلب نسأل الله السلامة والعافية. أيها المسلمون : إن من واجب المدرس أن يقوم بتربية تلاميذه وطلابه وتعليمهم لهذه الأخلاق والاتصاف بها مُصَاحِبةً لتعليم المواد المقررة، لأن وظيفة المعلم هي التربية والتعليم انطلاقاً من اسم الوزارة التي يعمل بها وهي وزارة التربية الوطنية والتعليم، فإن التربية تصاحب هذه المواد وتلازمها وهي مكملة لها. فالتربية أولا ثم التعليم ثانيا. لأن التربية من لوازم العلم، ولذلك جاء وصف العلماء بصفة التربية والربانية، وسمي العالِمُ الجامع بين تعليم العلم وتربية النفوس بالأخلاق العالية بالعَالِم الرباني، فهو رباني بما يحصل منه من التربية على العلم وعلى العمل وعلى الأخلاق الفاضلة الكريمة والصبر والتحمل للأمانة والشفقة على الناس والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن هذا من تمام النُّصْح للخَلْق بطريقة الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، والدعوة بالتي هي أحسن، والبعد عن الإثارة وجرح الشعور، فإن ذلك أدعى للقبول وأقرب إلى التأثر والقبول من الناصح. وقد قال بعض العلماء رحمهم الله : إن العلماء الربانيين هم الذين يتدرجون بتلاميذهم وطلابهم من المسائل السهلة إلى المسائل الصعبة ويربونهم بالأخلاق الكريمة وكيفية التجمل بالعلم وتعظيمه واحترامه والعمل به والإخلاص في طلبه والتواضع له، وأن يبتغي بذلك وجه الله تعالى ويتسِم بسمات الرسل والأنبياء والتأسي بالسلف الصالح، والعلماء الأفاضل الذين يطلبون العلم محبة له، وللعمل به، اقتداء بالصفوة من أساتذة هذه الأمة ومربيها وعلمائها، فالتعليم يتطلب من المعلم والأستاذ والمربي اهتمامه بالمادة العلمية، وتفهيم الطلاب لها، وتعليمهم إياها بمتقضى المنهج السليم المرسوم على أكمل وجه وأحسن أسلوب، مراعيا في ذلك ما بين تلامذته أو طلابه من فوارق فردية ذهنية أو اجتماعية تحُضُّه على الاهتمام بذوي الأفهام والعقول المتوسطة والضعيفة من الطلاب متصفاً بالصبر والتحمل في سبيل إيضاح المادة لهم راجياً أجْرَهُ وثوابَهُ من الله سبحانه وتعالى أولا وقبل أي شيء، والله لا يضيعُ أجر من أحسن عملاً. كما أن على المعلم أن يتحرى الأمانة والاخلاص والعدالة في تقويم التلاميذ والطلاب تقويماً مبنيا على مقتضى المنهج التعليمي التربوي متجرداً في تقويمه للتلاميذ والطلاب عن العلاقات الشخصية بهم أو الاتجاهات النفسية نحوهم، أو علاقة القرابة والنسب والجوار وغيرها.
إن من واجب المدرس الاتصاف بصفات أهل العلم، والتحلي بمكارم الأخلاق، وأداء الواجب على الوجه الأكمل، والمحافظة على مواعيد الحصص وأن لا يتقدم بالرخص الطبية لحاجة في نفسه دون عذر شرعي، وأن يكون قدوة لطلابه، بأفعاله قبل أقواله، وأن يطابق قولُه عمَلَه، ويحْذَر كل الحذر من أن يخالف قولُه فِعْلَه وعمَلَه، لأن هذه الأمور تنزع الثقة من المدرس في نفس التلاميذ والطلاب، فتصبح أقوالُه قليلة الجَدْوى والنفع إن لم تكن منعدمةً، وقد نبّه الله جل وعلا عباده المؤمنين إلى ذلك، تحذيراً منهُ لهُم، فقال سبحانه وتعالى : {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون}(الصف : 2- 3). فاتقوا الله عباد الله، وأدوا أماناتكم، وامتثلوا أمر ربكم، واقتدوا بنبيكم وخيْرِ مُعلم بعث للعالمين صلى الله عليه وسلم عملا بقول الله تعالى : {ولكن كونوا ربّانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون}(آل عمران : 79). نفعني الله وإياكم بالقرآن الكريم وبهدي سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الهادي إلى الصراط المستقيم……
أما بعد : معاشر المسلمين : إذا كان على الأساتذة والمعلمين والمربين والأطر الإدارية مسؤولية تجاه التلاميذ والطلاب، فإن هذه المسؤولية يتقاسمها معهم الآباء والأمهات والمجتمع والدولة بكل مكوناتها، كل حسب موقعه، وكذا الإعلام بكل صوره وأشكاله على اعتبار أن له تأثيراً وتوجيهاً قوياً سواء نحو الخير أو نحو الشر، فيجب على هؤلاء جميعاً أن تصب جهودهم في خدمة تحقيق الأهداف التربوية والتعليمية المراد تلقينها للناشئة والأجيال الصاعدة من التلاميذ والطلاب، وإلا فإن الكل يعلم أن اليد الواحدة لا تصفق، ولأن الأمر يحتاج إلى التعاون والتكافل، والتآزر. لذا لا ينبغي أن يكون طرف من هؤلاء المسؤولين يبذل قصارى جهده لتحقيق الأهداف التربوية والتعليمية، وأن يكون طرف آخر يبذل جهده في الهدم والفساد وإشاعة الرذيلة وخاصة بعض الأوساط الإعلامية وبعض الأطر التعليمية المغتربة التي تتخذ من وسائل الفساد والإفساد العقدي والفكري والتربوي منهجاً وسبيلا وغاية لها ظنا منها أنها تقدم الخير للناشئة في حين أنها معول هدم وتدمير. فيكون بذلك الضحية الأكبر هم فلذات أكباد الأمة طلاباً وتلاميذاً ويضيع مستقبل الأمة تبعاً لذلك. لذا فاعلموا عباد الله أن الله جل جلاله أمرنا بمراقبته وتقواه في سرنا وعلانيتنا، والخوف من عذابه وناره.
فاتقوا الله أيها المسلمون، واستمسكوا بالعروة الوثقى، وتفهموا كتاب ربكم تفلحوا، واعْمَلُوا بسنة نبيكم تهتدوا واعلموا أن العلم والتعلم مِن أجلِّ العبادات التي يتَقَرَّبُ بها المسلم إلى ربه، وأن إرشاد الناس إلى ما ينفعهم في أمور دينهم من أفضل الأعمال وأجلِّها قدراً وأعْظمها أجراً، لاسيما غرْسُ العلوم الشرعية والآداب الإسلامية الرفيعة في نفوس الناشئة، فإن له الأثر في الحال والمآل ويكون التأثير أبْلَغ إذا كانوا صغاراً لم تتلوث نفوسهم بالمؤثرات المادية والأخلاقية المنحرفة، بل هي على الفطرة التي فُطِرُوا عليها، وإن للمدارس أثراً كبيراً في ذلك. قال بعض العلماء : إن المعلم الماهر يستطيع أن يصوغ هذه النفوس في القالب الذي يحب، وإذا عرفنا طول عِشْرةِ التلميذ لمعلمه، وأدركنا أن كلمات المعلم الملتزم الصادق المخلص، لها وقْعُها في النفوس بين طلابه، عَلِمْنَا أن واجبهم في الدعوة إلى الله وإلى مكارم الأخلاق وغرسها في نفوس طلابهم أمرٌ له تأثير، وله نتائجه الحسنة، وإن كان المدرس بعكس ذلك فله أثره وسلبياته السيئة، فإن تكوين الأخلاق السامية والآداب الشرعية في النفوس والعمل بالعلم والاتصاف بصفات العلماء العاملين من سلفنا الصالح والأساتذة والمعلمين المخلصين أولى من حشو الأدمغة بالمعلومات الخالية من تلك الصفات، وماذا ينتفع الناس من علم شخص فسدت أخلاقه وآدابه، ولم يهده العلم ويقوِّمْه الأدب!؟ وقد قيل : “لا خير في علم لا ينتفع به” وقد كان رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم يتعوذ من العلم الذي لا ينفع فيقول : ((.. وأعوذ بك من علم لا ينفع)) ألا فليحرص الأساتذة والمعلمون والمربون المخلصون على تقويم أخلاق تلاميذهم وطلابهم، وحثهم على العمل، والتخلق بأخلاق القرآن الكريم، والاتصاف بصفات سيد المرسلين. وليعلم إخواننا الأعزاء المدرسون الفضلاء والآباء الأجلاء، والمربون الكرماء والمجتمع الوفي والدولة المصونة والإعلاميون النجباء، فليعلم هؤلاء جميعاً أن الله أودعهم ودائع، وحمَّلَهم أمانةً، وأوجب عليهم رِعَايتَها والقيام بحقها فهم رعاتها، وهم رعاة التربية والعلم والتعلم والتلاميذ والطلاّبِ وغيرهم، وكل راع مسؤول عن رعيته، فإن هو أدّى واجبه على التمام والكمال فهو الفائز المرْحُوم، وإن هو قصر في واجبه أو لم يقُم به فهو الخاسر الشقي الظلوم، نسأل الله تعالى أن نكون جميعاً من الأتقياء السعداء الذين يأخذون كتابهم بيمنهم، فيقول كل منا يوم لقاء ربه {هأؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه فهو في عيشة راضية}.

د. عبد اللطيف احميد

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>