تشكل المدرسة أهم مؤسسات المجتمع ذات الوظائف الرئيسة والمتعددة، ولا يتصور قيام مجتمع ولا استمراره من غير وجود هذه المؤسسة أو مثلها الذي يقوم بأداء دورها وتحقيق وظائفها. ولئن تعددت وظائف المدرسة وأهدافها فإنها لا تكاد تخرج عن هدف كبير هو صناعة الإنسان الصالح في مجتمعه. ولا يتحقق صلاح الإنسان إلا بتحققه وتخلقه؛ تحققه من العلوم والمعارف واكتسابها على وجهها الصحيح، وتخلقه بالأخلاق والآداب الإنسانية الفاضلة. ولذلك يمكن القول إن أهم وظيفة أنشئت المدرسة لأدائها هي التربية والتعليم؛ إذ تنصرف وظيفة التربية إلى غرس القيم الأخلاقية والسلوكية القمينة بجعل الفرد صالحا وخيرا مندمجا مع غيره قابلا للتعايش السلمي مع الغير، وتنصرف الوظيفة التعليمية إلى مساعدة الفرد في اكتساب المعارف والعلوم عن محيطه الطبيعي والبشري بما يجعله قادرا على حسن تدبير عيشه وأمره ونفع غيره. وأي خلل في هاتين الوظيفتين بالفصل بينهما يكون له انعكاس خطير على استقامة السير الحضاري للمجتمع، فأي حظ للمدرسة المغربية من الوصل أو الفصل بين البعد العلمي والخلقي؟
أولا المدرسة المغربية وواقع الفصل بين العلم والأخلاق:
أ- تناقض الخطاب الرسمي والواقع العملي : ظل الخطاب الرسمي في المغرب في مرحلتي المقاومة والاستقلال يؤكد على الأهداف التربوية والقيم الخلقية للمدرسة المغربية إلى جانب الهدف العلمي والمعرفي. ولقد كانت مرحلة المقاومة أقوى في بروز الوعي بذلك تصورا وواقعا في حين خفتت العلاقة بين ما هو علمي وتربوي في المدرسة المغربية تدريجيا، وأصبح التناقض بين التنظير والممارسة الواقعية سمة المرحلة الجديدة وتزداد الهوة اتساعا بين التعليم والتربية.
ب- تجليات الفصل بين العلمي والأخلاقي : لعل أبرز تجليات الفصل بين ما هو تعليمي وما هو تربوي:
- انتشار ظاهرة العنف المدرسي: من أكبر مظاهر الفصل بين التربية والتعليم أن أصبحت المؤسسات التعليمية ببلادنا بؤرا للعنف والسرقة وتنظيم العصابات المحترفة في ذلك، وميدانا لممارسة القوة والاعتداء على الأرواح والأعراض والممتلكات الخاصة والعامة ، وانتشار العنف لا يدل إلا على ضعف التخلق بالأخلاق الحسنة، وضعف أثر التربية الخلقية على سلوك الفرد، لأن الأخلاق ليست دروسا نظرية بل أحوال وأقوال وتجليات عملية ، ومع انتشار الظاهرة واستفحالها لم تعد المدرسة ولا الجهات الوصية على قطاع التربية والتعليم قادرة وحدها على معالجة المشكل ومحاصرته.
- انتشار ظاهرة المخدرات تجارة وتعاطيا: بنفس المستوى السابق يلاحظ أن المؤسسات التعليمية صارت أوكارا للمتاجرة في المخدرات التي يكون التلاميذ والأطفال – فتيانا وفتيات- أول ضحاياها، ولم يعد يؤرق الأسر المغربية هاجس مثل هذا الهاجس، ولم تعد أسرة تأمن على فلذات أكبادها من الوقوع في حبال المتربصين بهم من المدمنين والعابثين والمتاجرين بهذه الآفة.
- انتشار ظواهر التفسخ الأخلاقي بين الجنسين: إن صور العري والتهتك والانحلال الخلقي بين الذكور والإناث أمام أبواب المدارس والمؤسسات التعليمية تعدت مستوى استفزاز المواطنين من المارة والمحيط السكني للمدارس حتى صارت أبواب المؤسسات التعليمية والجامعية في الذاكرة الجماعية للمجتمع المغربي إلا سوى سوق للدعارة والتجارة الجنسية.
ج- ما هي أسباب ظاهرة الفصل بين العلم والأخلاق؟ : يصعب علينا استقصاء أهم أسباب انفصام العلاقة بين التربية والتعليم، وبين العلم والأخلاق ، غير أنه لابد من التنبيه على بعض تلك الأسباب التي يمكن عدها أسبابا رئيسة وعوامل أساسية في إحداث القطيعة بين الطرفين( العلم والأخلاق)،
ويمكن ذكر جملة من ذلك كالآتي:
- انتشار قيم الحداثة والعلمانية : مع دخول مرحلة الاستقلال أخذ يغلب على السياسة التعليمية في المغرب التوجيه العلماني والحداثي، وتم تغليب كفة التعليم العمومي الموروث من الحقبة الاستعمارية بمفاهيمه ومناهجه، ومضامينه وغاياته، وفي المقابل تم القضاء على التعليم الشرعي الإسلامي وتهميشه بالمرة، ومعلوم أن الفلسفة التي تقوم عليها كل من العلمانية والحداثة هي رفض القيم الأخلاقية والدينية عامة والإسلامية منها خاصة واعتبارها موروثا اجتماعيا تقليديا ينبغي الثورة عليه، في مقابل دعم القيم الوضعية والحريات الفردية والقيم الغربية باسم الحرية والديمقراطية والقيم الكونية، والقول بنسبية الأخلاق وتغيرها، ونشر قيم الصراع والمنافسة… ونتيجة لذلك انتشرت في المجتمع المغربي فهوم سيئة عن الأخلاق والفضائل والحرية والمعاصرة، وصور سلبية عن المتدينين والمتخلقين بأخلاق حسنة.
- تنحية مواد التعليم الشرعي الإسلامي من التعليم العام أو تقليص حصصه: كان من الكوارث التي حلت بالعالم الإسلامي والمغرب جزء منه، أن عمل الاستعمار ووكلاؤه بعده على إلغاء التعليم الشرعي في كثير من البلدان وتقليص حصصه من التعليم العمومي إلى حد فقد معه أثره في العملية التعليمية والتربوية ، كما همش أهله وحرموا من مراكز تدبير الشأن العام للبلاد والتخطيط للسياسة التعليمية للبلاد بوصفهم حاملي لغة ومعارف تقليدية لا تساير متطلبات العصر، ولا تلبي مطالب سوق الشغل!! وهكذا تم تصوير التعليم الشرعي وقيمه التربوية وكأنه عقيم ولا يفي بحاجيات الناس!! وترتب عن هذا أيضا وجود شبه قطيعة بين ما بقي من المؤسسات الدينية (مجالس علمية، مندوبيات وزارة الأوقاف، دور القرآن ، معاهد التعليم العتيق، …) والمؤسسة التعليمية.
- التأثير السلبي للإعلام: كان من بين أهم العوامل المؤثرة في إحداث القطيعة بين العلم والأخلاق هو المنظومة الإعلامية التي اتجهت منذ وقت مبكر إلى نقل قيم التفسخ الأخلاقي والانحلال والعنف، وخلت برامج الإعلام في أغلبها-ولا تزال- من البعد التربوي والتعليمي والمشاركة في بناء المواطن الصالح الفاعل في مجتمعه بالخير، الأمر الذي كان له انعكاس سلبي وخطير على تدهور المنظومة الأخلاقية وازدياد القطيعة بين الحياة والأخلاق.
- بناء منظومة الامتحانات والتقويم على هيمنة الجانب المعرفي والعلمي والمهاري اليدوي على حساب الجوانب القيمية والأخلاقية حتى في المواد الشرعية: رغم أن المشرع المدرسي حاول بناء فلسفة التربية والتعليم على الجمع بين الجوانب المعرفية والسلوكية والوجدانية إلا أن العملية التعليمية التعلمية أصبح المدار فيها هو الجانب المعرفي على حساب الجوانب القيمية والسلوكية، لأن مدار الامتحانات والتقويمات وأسئلة الاختبارات الإشهادية والمباريات المهنية ـ في الغالب ـ على تقويم الحصائل المعرفية للتلميذ والطالب مما يزهد الناس في الأخلاق ويصبح الهاجس لديهم ماذا تحفظ؟ وكم تحفظ؟ وكم لديك من المعلومات؟ وبسبب ذلك شاعت ظواهر الغش في الامتحانات وتسريب الأسئلة، وضعف الضمير الخلقي !!
- انحصار وظيفة المدرس في التعليم دون التربية: نتيجة لما سبق لم يعد الجو العام في المدرسة وفي الأقسام يحتمل الحديث عن الأخلاق، بل صار الحديث عنها أحيانا مثار السخرية والاستهزاء !! فضلا عن أن كثافة دروس المقرر وطوله لا يسمح للأستاذ بتخصيص حيز زمني لمعالجة المشكلات السلوكية والظواهر الأخلاقية المشينة.
ثانيا المدرسة المغربية وضرورة الوصل بين العلم والأخلاق: بناء على ما تم تشخيصه من أسباب حالة القطيعة بين الأخلاق والعلم، ومن عرض بعض مظاهرها وتجلياتها، يحسن بنا أن نؤكد في هذا المقام أن الوضع الطبيعي لعلاقة العلم بالأخلاق، والتعليم بالتربية هو التلازم والوصل والاتصال وعدم الانفصال، وأن الخروج عن هذا الأصل خروج إلى سوء العاقبة والمآل. والأصل في هذا قول الله عز وجل في بيان وظيفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: {هو الذي بعث في الاميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}(الجمعة : 2)، وقوله تعالى في دعاء إبراهيم \ : {ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم}(البقرة:128) فورد في الآيتين التلازم بين التزكية / التربية وبين تعليم الكتاب والحكمة، وإن وقع تقديم التزكية على التعليم في الأولى وتأخيرها في الثانية.
ويستفاد من الآيتين السابقتين جملة أمور مهمة في تحقيق الوصل بين التربية والتعليم منها:
- أن جعل كتاب الله في بؤرة التعليم وعليه مدار كل شيء تلاوة وتجويدا وحفظا وتعليما وتدبرا واستنباطا هو الكفيل بترسيخ قيم الخير والعدل والتآخي في النفوس.
- أنه لا نهوض بقطاع التعليم ولا إصلاح حقيقي يرجى ما دام الوحي وعلومه التي منها تنبثق الأخلاق لم يعط حقه في المقررات الدراسية.
- كما أنه لا إصلاح يرجى من التعليم ما لم يتشبع أطره والقائمون عليه بروح القرآن وأخلاق القرآن فالمدرس والمشرع والمبرمج والإداري والتلميذ عليهم يقوم نجاح قطاع التربية والتعليم، وكل أولئك في حاجة للارتواء من القرآن الكريم والتخلق بأخلاق الإسلام.
- جعل كل مؤسسات المجتمع والدولة في خدمة التربية والتعليم انطلاقا من روح الوحي القرآني وعلومه إعلاما وأمنا وقضاء وثقافة واقتصادا وجمعيات، وأن تتظافر جهود الجميع وتتوحد القبلة نحو هدف واحد…
- إيلاء جانب التربية والتزكية أهمية كبرى في تقويم التلاميذ وتخريج الخريجين، وإيجاد سبل للتقييم في جانب القيم والاستقامة الخلقية.
د. الطيب الوزاني