في مثل هذا الوقت من كل سنة، تضع الدراسة أوزارها، وتغلق المدارس أبوابها، وتستشرف الأسر أين تقضي عطلتها، بعد عام كامل من الدراسة والتحصيل، ومجهود شاق يبذله الآباء والأبناء على حد سواء. وإذا كان الآباء يهتمون بمتابعة نتائج نهاية السنة فيفرحون بفرح أبنائهم، ويسرون بنتائج تحصيلهم، فإن اهتمامهم لا ينبغي أن يتوقف بنهاية الموسم الدراسي، وإنما ينبغي الاهتمام -وبنفس الدرجة- بكيفية قضاء عطلة الصيف؟ ذلك أن أشد ما يواجه الآباء في عطلة الصيف، هو كيف يوجهون أبناءهم إلى استثمار الفراغ الذي يشعره الأبناء في عطلة الصيف؟ وكيف يحمونهم من آفته الخطيرة على سلوكهم؟. فا لمطلوب إذن هو وضع برنامج متكامل خاص بالعطلة، لا يغفل قيمة الترفيه والاستجمام باعتبارهما عونا للشاب وإعدادا له لموسم جديد، وعمل جديد في أفق سنة جديدة. على أن المدخل الأساس لوضع برنامج لعطلة الصيف هو استشعار قيمة الوقت، ونعمة الفراغ، مع الحرص على ملئهما بما يفيد، مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : >نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس، الصحة والفراغ<(البخاري). والمغبون هو الخاسر، يخسر وقته، ويستنزف طاقته فيما لا نفع فيه.
ولما كان الوقت بهذه المنزلة، والفراغ بهذه القيمة، وعطلة الصيف تشهد فائضا في الوقت، وفائضا في الفراغ، كان لزاما على الآباء البحث عن سبل تحقيق أكبر قدر من الفوائد والمنافع خلال هذه العطلة، حماية للأبناء من آفة الفراغ، وصونا لهم من المعاصي والزلات، التي يستجلبها العيش في الفراغ، وعدم استشعار قيمة الحياة، ونعمة الوقت. غير أن من واجب التنبيه أن المسلم لا وقت للفراغ لديه، فهو يتقلب من طاعة إلى طاعة، ومن عمل إلى عمل، لأنه مأمور بذلك، قال الله تعالى في محكم التنزيل : {فإذا فرغت فانصب}(….). وهذه الآية على قصرها ترسم للمسلم خطة عملية في حياته مفادها : أنك أيها المسلم إذا فرغت من عمل فانطلق إلى عمل آخر دون توقف، ومثالها : إذا فرغت من صلاة فاجتهد في دعاء وتضرع، لأن العبد المسلم لا وقت عنده للفراغ، فصمته تفكير، وكلامه تذكير، ومستقبله تدبير، إذا توقف عن عمل، انهمك في آخر.. وهكذا حتى يأتيه اليقين. إن غاية العبد المسلم من العطلة، استجماع القوة وتجديد النشاط. والاستعداد للموسم الجديد، كما قال معاذ رضي الله عنه : >أما أنا فأقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي<(البخاري).
وهكذا، فراحة المسلم عبادة، لأنه يقصد بها التقوى من أجل طاعة أخرى، وعمل آخر في مرضاة الله تعالى. على أن التفريط في نعمة الوقت، دونه عواقب وخيمة، وآفات عظيمة، أخطرها آفة الفراغ، التي غالبا ما تفضي بالإنسان إلى اقتراف المعاصي واجتراح الزلات، ومتابعة الملهيات، دون استشعار انصراف الأيام والساعات. فهل يرضى العبد المسلم لنفسه أن تذهب حياته هباء؟ وتنقضي ساعاته هدرا؟ لا رسالة.. لا هدف.. لا إنجاز.. والعمر يمضي والأيام تتوالى سراعا، والإنسان محاسب ومسؤول عن عمره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع منها : عن شبابه فيما أبلاه وعن عمره فيما أفناه…). إن العبد العاقل هو الذي يشغل أوقاته وحياته فيما ينفعه في دنياه وآخرته، فيصرف أوقاته في إسداء الخير لأمته، أو تقديم العون لإخوته، أو الترويح بالمعروف عن أسرته، فيبتعد بذلك عن التباطؤ والتسويف والتأجيل، لأنه يعلم أن الحياة قصيرة، والفتن ضارية، والمغريات مهلكة، لذلك وجبت المبادرة بالأعمال. كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >بادروا بالأعمال سبعا هل تنتظرون إلا فقرا منسيا، أو غنى مطغيا، أو مرضا مفسدا، أو هرما مفندا، أو موتا مجهزا، أو الدجال فشر غائب ينتظر أو الساعة والساعة أدهى وأمر..<(الترميذي). لذلك على المسلم أن يعد الزاد، ويجمع العتاد، فيفرح وينتفع “يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم”.
بيد أن المتأمل في واقع شبابنا اليوم يرى كيف اقتحم الفراغ حياتهم، فأرداهم بين فاقد للحس لا يبالي ذهاب الأيام والليالي، وبين منغمس في المعاصي والزلات غير آبه بتعاقب الشهور والسنوات، كل هذا والآباء منشغلون عنهم بدعوى جلب الأقوات، وتلبية الحاجات. هذا وقد أثبت علم النفس الحديث، أن الفراغ يقتل لدى الشباب الإبداع والسعي نحو النجاح، كما أنه يؤثر على مستوى تحصيلهم الدراسي، ويضعف من قدرة استيعابهم للمعارف، فيكون سببا من أسباب فشلهم الدراسي. فهل يعي الآباء جسامة المسؤولية الملقاة على عاتقهم اتجاه أبنائهم وخاصة في عطلة الصيف؟ وهلا سطروا برنامجا خاصا يحمي أبناءهم من آفة الفراغ؟ وهل من سبيل إلى وقفة حاسمة مع الصوارف والشواغل التي تشغل الآباء عن أبنائهم؟… قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : >ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يحطها بنصيحة إلا لم يجد ريح الجنة<(البخاري).
وفي الأخير يمكن اقتراح بعض الخطوات التي تساعد في وضع برنامج هادف لعطلة الصيف :
1- الحرص على العبادات من صلوات وأذكار وأوراد، مع التفكر في الأكوان وقراءة القرآن.
2- حفظ القرآن الكريم وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأشعار العرب.
3- الحرص على تحفيز الأبناء على المطالعة وقراءة الكتب الإسلامية والقصص والروايات المفيدة.
4- الحرص على تنمية مهارات التعبير الكتابي من تدوين للخواطر والمشاهد وتلخيص للمقروء وكتابة مواضيع.
5- الحرص على أن يتبنى الأبناء قضية من قضايا الأمة، كقضية فلسطين، ومتابعة أخبارها ومستجداتها.
6- الحرص على استثمار أوقات الرحلات والتنزه في تقوية روح الملاحظة العلمية وتقوية المعارف العلمية والتاريخية والاجتماعية عن المنطقة، مع مراعاة الفروق الفردية للأطفال وتفاوت مداركهم ومواهبهم.
7- الحرص على اختيار الرفقة الصالحة للأبناء، لأنه كما يقال : الصاحب ساحب! وقال تعالى : { الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين}(الزخرف : 66).
8- الحرص على تخصيص أوقات محددة لمراجعة الدروس السابقة والاطلاع على المقررات اللاحقة.
9- الحرص على إشاعة جو التنافس بين الأطفال، وتخصيص جوائز تحفيزية وتشجيعية من قبل الوالدين.
فاللهم اعصمنا واعصم أبناءنا في هذا الصيف من الزلات والضلالات، واحفظنا واحفظ أبناءنا من كل أنواع الفتن والمنكرات… آمين والحمد لله رب العالمين.
عبد الرحمن الغربي