خروق في سفينة المجتمع(16) رمضان وإصلاح الخروق


تصلح سفينة المجتمع بالدين، وتفسد بالانحراف عن الدين، والمقصود بالدين هنا هو دين الإسلام الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده شرعة ومنهاجا، عندما أنزل على نبيه الكريم وخاتم رسله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام آخر بلاغ للناس: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}. والدين أوامر ونواه، وأحكام وقيم وآداب، وقبل ذلك عقائد وتصورات تحكم كل ذلك، إذ هي له بمثابة القاعدة والأساس الذي يمده بالقوة والحيوية والإسناد، والمقصود بالدين باعتباره بناء متكاملا إصلاح النفس وتحليتها بالفضائل وكريم السجايا والخصال، وتطهيرها من كل الرذائل التي تحط من قدرها وتقعد بها عن المعالي ومكارم الأعمال. وإن من شأن هذا الدين، أن كل ركن من أركانه أو تشريع من تشريعاته، يتخذ له موقعا مخصوصا تناط به وظيفة من الوظائف، تتضافر مع غيرها لتتويج الإنسان المسلم بتاج الإنسانية الكريمة الذي جوهره العبودية للواحد المتعال. ويحتل الصيام باعتباره فريضة وركنا من أركان الإسلام الخمسة موقع الجهاز المطهر للإنسان المسلم والجماعة المسلمة من كل العوائق والمثبطات التي تعوقها عن أن تستكمل شروط وعناصر العبودية لله الواحد القهار، بإتيان ذلك الإنسان وتلك الجماعة ما يحبه الله ويرضاه، واجتناب ما يكرهه ويأباه، ويترتب عن ذلك أن تتحرك سفينة المجتمع وهي في مأمن من أخطار التعثر أو التيه بين الأمواج، التي تهددها إن حاد ركابه عن قانون السير أو الإبحار.

لقد اقتضت مشيئة الله وحكمته أن ينشئ هذا الإنسان كيانا يتصارع فيه الخير والشر، وتتشابك على صعيده نوازع السمو ونوازع الهبوط، فإزاء الأمانة تتربص الخيانة، ووراء زكاة النفس يكمن الفجور، ووراء الصدق يتربص قول الزور، وهلم جرا مما يمثل اختبارا يثبت فيه الثابتون، ويسقط فيه المتهافتون، ويتأرجح المتأرجحون. ولقد تكفل الله عز وجل وهو الحكيم العليم الرحيم بمد عباده الذين أذعنوا لأمره بما يؤهلهم للنجاح في ذلك الاختبار، وتندرج فريضة الصيام ضمن ذلك الإمداد. ما أكثر الخروق والثقوب التي تنوء بأوزارها سفينة المجتمع خلال الشهور الإحدى عشرة التي تسبق شهر رمضان الكريم، وهي خروق تهاجم نسيج العلاقات الإنسانية داخل السفينة، وتمزقه شر ممزق في خضم الهوى الجامح والغفلة الطاغية: غيبة ونميمة، سباب وتنابز بالألقاب، غش ونصب واحتيال، كذب وزور وبهتان، تفسخ وتهتك وانحلال، لغو وسقوط، وإسفاف وهبوط، وهلم جرا مما يكبل طاقات السفينة ويقعدها عن الانطلاق، ويجعلها فريسة للإحباط والضياع. ورمضان كفيل بأن يرمض كل تلك الذنوب، ويذيب كل تلك العيوب، إن خلصت القلوب وصدقت النيات، وذلك بفضل ما أعدته العناية الربانية من أجواء خاصة وشروط استثنائية من تصفيد لمردة الشياطين، وإنزال للملائكة المقربين لمباركة الصائمين. “وأما الثالثة: فإن الملائكة تستغفر لهم في كل ليلة” كما قال صلى الله عليه وسلم. إن النجاح في اختبار رمضان، باستثمار ما هيء فيه من شروط التطهر والارتقاء، والتقرب من الرحمن، قمين بأن يوصل إلى الفوز برصيد ثمين، وجوهرة نفيسة، إنها التقوى التي يضمن استمرارها في القلوب استمرار صلاحها وثباتها على الحق، ودوامها على اليقظة إزاء ما يتربص بها من أخطار الوساوس والفتن التي يتزعمها الشيطان اللعين، مخفورا بتلامذته من شياطين الإنس الذين زودهم بشاراته، ودمغهم بعلاماته التي تجعلهم معلومين بها من الخاص والعام، يقول الله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات} والنتيجة المضمونة بإذن الله، هي استمرار صلاح السفينة وإبحارها في أمان نحو أهدافها الكبرى : أداء أمانة البلاغ، ورسالة الإصلاح، لتهنأ البشرية في الدنيا والآخرة. والصيام، ليبلغ بصاحبه تلك الغاية السامية والجائزة السنية ما كان ليكون مجرد أشكال وقشور تفقده جوهره ومعناه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه))(رواه البخاري).

إن المجتمع المسلم وهو يدخل في حضرة شهرالصيام، يشبه في حركته حقا حركة السفينة وهي تدخل مكانا خاصا بالميناء، قصد الترميم والإصلاح من الأعطاب، لتواصل بعد ذلك رحلة الإبحار إلى وجهاتها المنشودة لتحقيق ما تريده من منافع ومصالح. فرمضان هو تلك المحطة الرفيعة المستوى التي توفر فيه العناية الربانية لقاصديها، كل الوسائل والدعامات، وكل الجوائز والكرامات، التي تنقل الفرد والجماعة على السواء، نقلة نوعية تسمو بالحياة، إن رمضان هو هكذا في جميع الأحوال، غير أنه لا يبلغ مداه الذي أريد له، إلا ضمن مجتمع ارتضى الإسلام لباسا سابغا، ودخل أهله في السلم كافة، وليس ثوبا يجمع بين خيوط فيه الخير والنور على كل حال، ولكن ضمن رقع مجلوبة من مناطق غريبة عن قيم الإسلام ومنطق الإسلام. وإن الذي يجعل سفينة المجتمع تعاني التذبذب والعثار، هو دخولها القسري تحت طائلة نقض الغزل الذي نهى عنه الله عز وجل في قوله: {ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا}. ما أحوج أهل السفينة في الوطن المغربي العزيز، بجميع مواقعهم ومستوياتهم، أن يدخلوا جميعا محطة ومضان الكريم ، وكلهم عزم أكيد، على نية التطهر من الأدران، وتجديد العهد مع الله عز وجل من أجل العودة إلى موقعها الطبيعي، ضمن أمة الشهود على الناس، وما ذلك على الله بعزيز، فاللهم بارك لنا في شعبان، وبلغنا رمضان، واجعلنا فيه من المتقين.

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>