خروق في سفينة المجتمع 15 – رهوط الفساد


إن الذي يضمن الإبحار الآمن لسفينة المجتمع نحو بر الأمان، هو أن يخضع أفراد مجتمع السفينة لمنظومة من القيم الأخلاقية التي تمثل بالنسبة لهم درعا واقيا وصمام أمان، يحمي ظهرهم ويرعى بيضتهم، على اعتبار أنها (أي القيم) تجسد هويتهم وعنوان وجودهم، فمن عناصرها ينبت لحمهم ويتقوم كيانهم، وهي بمثابة الدم الذي يجري في عروقهم وشرايينهم، يحمل لهم عوامل القوة والبقاء، وعوامل التجدد ورسوخ الانتماء. ومن هذا المنطلق تمثل حماية تلك المنظومة مسألة حياة أو موت، فهي التي تؤمن تماسك جبهة السفينة وصلابة أجهزتها وألواحها ضد أي عامل من عوامل الخرق أو الانخراق، فإذا وقعت الغفلة عن هذه الحقيقة، وبالتالي عن إدراك الأخطار التي تداهم السفينة جراء ذلك، فإن حلول تلك الأخطار بساحة السفينة وأهلها، يصبح من باب الحتم اللازم لزوم النتيجة عن مقدماتها. ومما لا شك فيه، أن إفساح المجال لرهوط الفساد، حتى تتشكل، ثم توفير الشروط الملائمة لبيضها حتى يفقس، وجراثيمها حتى تتكاثر، وتمكينها من الدعم اللوجستي تنظيميا وإعلاميا، حتى تتمكن من حرية النعيق أو الزعيق، إن ذلك لمما يلحق تشوهات بمشهد السفينة، وينغص الحياة على ظهرها، وهو أمر لا مجال لتبريره في منطق العقلاء، الذي يقضي بضرورة التصدي للشرور في مهادها، وإن كان الفعل الأكثر رشدا هو أن يتم التمكن من الحيلولة دون انبثاقها وميلادها، من خلال التسلح بمستوى عال من اليقظة التي ترصد جراثيم الفساد قبل تخلقها، في كل موقع من مواقع السفينة، ومنشط من مناشطها.

إن ما وقع مؤخرا من تجديد الدعوة بصوت عال إلى شرعنة ممارسة الفاحشة، من خلال المطالبة بإلغاء الفصل 490 من القانون الجنائي، الذي يجرم كل علاقة جنسية بين امرأة ورجل لا تدخل في إطار الزواج الشرعي، يعد نموذجا لما يمكن أن يجنيه مجتمع يدين بالإسلام، من اضطرابات ونكسات خلقية واجتماعية، نتيجة تساهله مع دعوات شاذة تبدأ خجولة، ثم ما تلبث أن تعلن عن نفسها بتحفظ أقل، ثم لترفع صوتها بكل صفاقة واستعلاء، عندما تعتقد أن الساحة قد أصبحت مهيأة لتقبلها والتجاوب معها، ما دامت لم تثرب عليها، أو تشدد عليها النكير، وبالخصوص على مستوى الجهاز الموكول إليه أمانة حراسة السفينة من أي عدوان يداهمها بليل أونهار، أي حراسة ما به قوامها من قواعد وتصورات وقيم. إن المنظمة الحقوقية التي تولت كبر الدعوة إلى قانونية التحرر في ممارسة الفاحشة لم تأنس من نفسها الجرأة على الجهر بمطلبها الآثم إلا وهي مستندة إلى واقع أصبح فيه الفجور في وضع الشيوع والاستعلان، وأصبحت صوره وأخباره مادة دسمة تتغذى عليها وسائل الإعلام بجميع أنواعها، إلى الحد الذي أدى إلى وقوع تطبيع بينها وبين الناس، فلا غرابة إذن أن لا يقنع دعاة الفجور بالفاحشة كواقع يتعايش معه الناس ولا يأنفون منه، أو تتمعر وجوههم لرؤية صوره الشنعاء، ويصممون على الانتقال بالمعركة إلى مستوى الشرعنة والتقنين، ليواصلوا عملية خرق السفينة، وهم في مأمن من كل مساءلة أوعقاب، على أمل أن يتمكنوا من تحقيق الطفرة المنشودة التي يصبحون بموجبها أهلا لينطقوا ذات يوم ـ إذا سكتت السفينة ربابنة وركابا ـ بما نطق به قوم لوط إذ قالوا:” أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون” .

إن رهوط الفساد وهم يعملون وفق مخطط مرسوم، يسلكون وفق إيديولوجية معلومة، ويعبرون بقاموس مخصوص، أما الإيديولوجية فيكفي أن نعلم أنها هي والدين بأركانه ومقوماته وقيمه على طرفي نقيض، لنعلم أن معركتها الدائمة أو حربها الضروس، هي الحفر الدؤوب في الأساسات التي يقوم عليها كيان الأمة، اعتقادا منها أن ذلك الدأب كفيل بأن يمكنهم ذات يوم من رؤية ذلك الكيان وقد انهار على رؤوس أصحابه، ليبنى على أنقاضه مجتمع قوم لوط الذي يخلو من الطهارة والمتطهرين. وأما القاموس المتداول فيما بين أفراد القوم، فمن أبرز مفرداته: ” الحريات الفردية”، و” حرية التصرف في الجسد”، وهما لفظان كافيان للحكم من خلالهما في ضوء مفهومهما لدى دعاة شرعنة التحرر الجنسي، بحمق هؤلاء، وافتقادهما لأي خيط من خيوط الوعي الاجتماعي الذي لا يفوت من تمتع بأدنى حد منه أن يعلم بأن النظر إلى حرية الأفراد في معزل عن حاجيات التعاقد الاجتماعي التي تقضي بتنازل الأفراد عن جزء من حريتهم لصالح المجمع، يعد طوباوية فجة، وحمقا شنيعا يفرض على أهل سفينة المجتمع أن يكونوا عل حذر من أصحابه. لقد صدر لأحد الأساتذة مقال ناقش فيه نفس الموضوع، بقولة للكاتب والمفكر الإنجليزي الساخر يقول فيها:” من عيوب الديمقراطية أنها تجبرك على الاستماع إلى رأي الحمقى” ، وإنه ليحق لنا أن نتوسع في تحليل هذه القولة، في ظل المخازي التي أفرزتها المجتمعات الديمقراطية المعاصرة، فنقول: إن من عيوب الديمقراطية أيضا ـ وهذا أدهى وأمر ـ أنها تجبرك على التفرج على رهوط الفساد والإفساد، وهي تحطم قلاع السفينة، وتلقي بقاذوراتها في جنباتها، تحت لافتات الحداثة والحريات الفردية وحرية امتلاك الجسد، وكأن الله خلق هذا الجسد ليكون آلة إفساد وفجور لا تبقي ولا تذر، وأن الحرية لا بد أن تتجه في الاتجاه المضاد لما يأمر به الله عز وجل من بناء وإصلاح. غير أن منطق الوعظ ما كان ليجد صدى في نفوس دعاة تقنين الفاحشة، بل ولا حتى منطق النقاش العقلي يجدي مع هؤلاء، لأن حجب الأهواء السميكة تحول بينهم وبين الإصغاء لوعظ أو برهان، فالمنطق الذي يجدي معهم إنما هو وضعهم تحت الحجر والحراسة المشددة، وإيقافهم عند حدهم، والحيلولة دون عبثهم بمقدرات السفينة ومصيرها.

لقد قال أحد أئمة الفجور في المغرب:” “لا ينبغي اعتبار ممارسة الجنس بين رجل وامرأة راشدين بالتراضي والتوافق بينهما جريمة فساد، لأن ذلك من صميم حرياتهما الفردية التي يجب أن يكفلها القانون”. إنها فلسفة للقانون، من أغرب وأعجب ما يكون: فالقانون في عرف هذا الدعي، عبارة عن عبد مأمور للأهواء الجامحة، والغرائز الهابطة، والشهوات المطلقة العنان. ولا يأبه هذا الدعي، وهو يتصرف تصرف المعاكس لأمر الله، بنزعه صفة الإجرام والفساد عما هو إجرام وفساد، ويكفي لتحقق صفة الشرعية لعملية الزنا أو غيره من أشكال الفاحشة، أن يكون هناك تراض بين المقترفين لها، أما غضب الله جل وعلا على من اقترفها، فلا اعتبار له في عرف الزمرة التي تولت كبر الدعوة لشرعنة الفاحشة. لقد آن الأوان لتتجرد السفينة بمن فيها ممن يحملون لواء الإيمان والأخلاق، ليكونوا عل درجة عليا من اليقظة، تمكنهم من إسكات الغربان الناعقة، ورد الاعتبار لحكم الله، والضرب بيد من حديد على كل من رام به استهتارا وتبخيسا. وصدق الله القائل: {أفحكم الجاهلية يبغون، ومن احسن من الله حكما لقوم يوقنون}(المائدة: 50).

د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>