اللغة العربية لغة القرآن: مباني ومعاني


يتألف هذا العنوان من محورين اثنين :

أولهما : العربية لغة القرآن، وثانيهما مباني ومعاني، أي أن هذه اللغة ذات مباني خاصة تترتب عنها معاني خاصة، ولذا يتطلب الأمر الوقوف عند كل المحورين المذكورين لتوضيح المقصود به في هذا الموضع الذي نحن بصدد الحديث عنه : “العربية لغة القرآن” طالبين من الله العون والسداد.

ونوضح ذلك كما يلي : العربية لغة القرآن : يتألف هذا العنوان الفرعي من كلمتين : أولاهما لغة، وثانيتهما : القرآن،

واقتصرنا في ذكر الكلمة الأولى على كلمة لغة، دون ذكر العربية لأن السياق يغني عن ذكرها، والعنوان كما هو واضح عبارة عن مضاف وهو (لغة) ومضاف إليه وهو القرآن، وعليه يمكن القول بأن هذه اللغة لها خصوصية ما في علاقتها مع القرآن، وهذا ما توجبه علاقة الإضافة الموجودة بين الكلمتين، ذلك أن القاعدة في مثل هذا التركيب تقول : إن المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف والتخصيص. بمعنى أنه يصير معروفا بعد أن كان مجهولا، أو خاصا بعد أن كانت دلالته عامة. وبما أن المضاف إليه معروف هنا وهو القرآن، فإن المضاف وهو لغة اكتسب تعريفا. ولا يعدم هذا التعريف الخصوصية أيضا وعليه فقولنا : “لغة القرآن” أي اللغة المعروف أن القرآن نزل بها، ومن ثم فهي أيضا لغة خاصة، ليست كباقي اللغات الإنسانية بخصوص هذه المسألة، وعليه فكل من أراد أن يفهم القرآن حق الفهم فإنه يجب، وأقول يجب عليه أن يتقن هذه اللغة. لأن معنى لغة القرآن : لغة للقرآن بتقدير حرف الجر “لِ”. وفي هذا السياق يقول المبرد : “فإذا أضفت الاسم إلى الاسم بَعْدَهُ بغير حرف (يعني حرف الجر) كان الأول نكرة، ومعرفة بالذي بعده”(المقتضب 4/113)، ويقول ابن يعيش بخصوص هذه القاعدة أي علاقة المضاف بالمضاف إليه “أما الإضافة المعنوية (يقول هذا لأن الإضافة نوعان معنوية ولفظية) فأن تجمع في الاسم مع الإضافة اللفظية إضافة معنوية وذلك بأن يكون ثم حرف إضافة مقدر(كما هو الحال في المثال الذي بين أيدينا : لغة القرآن) يوصل معنى ما قبله (وهو هنا لغة) إلى ما بعده(وهو القرآن هنا)، وهذه الإضافة هي التي تفيد التعريف والتخصيص(وهذا ما لاحظناه في علاقة كلمة لغة بالقرآن) وتسمى المحضة أي الخالصة يكون المعنى فيها موافقا للفظ” وإن أضفته (أي الاسم الأول المضاف) إلى معرفة تعرف (كما هو الشأن بالنسبة لكلمة لغة في هذا المثال الذي نناقشه) نحو غلام زيد (فغلام نكرة مثل لغة، وزيد معرفة مثل القرآن) فغلام نكرة ولَمَّا أضفته إلى زيد اكتسب منه تعريفا، وصار معرفة بالإضافة (لأن علامات التعريف كثيرة هذه واحدة منها)، وإذا أضفته على نكرة (مثل سَرْجُ دراجة) اكتسب تخصيصا…”(ش المفصل ح 2/118). وكلمة “لغة” في العنوان الذي نناقشه نكرة بمعنى أنها ذات دلالة عامة بحيث يمكن أن تطلق ويقصد بها أية لغة فهي بمثابة كلمة “غلام” في المثال الذي أورده ابن يعيش. ولذا فلما أضيفت إلى المعرفة التي هي “القرآن” اكتسبت تعريفا، كما صار اسم غلام معرفة لما أضيف إلى زيد وهو معرفة..” ويضيف : “فخرج (أي غلام) بالإضافة عن إطلاقه لأن غلاما يكون أعم من غلام رجل. ألا ترى أن غلام كل رجل غلام، وليس كل غلام غلام رجل…”(ش المفصل 118/2- 119). ولأجل تبسيط المسألة أكثر نورد لها بعض الأمثلة من اللغة المتداولة مثل ولد، معمل، مدرسة، شجرة فكل اسم من بين هذه الأسماء يعتبر نكرة مثل “لغة” و”ولد، ومعمل، ومدرسة، وشجرة يمكن لأي واحد منها أن يطلق على أي فرد من أفراد جنسه.. فإذا ما أضفنا أي واحد منها إلى إسم معرفة مناسب له فإنه سيصبح معرفة خاصة. فنقول مثلا ولد الفقيه، ومعمل الكحول، ومدرسة التكنولوجيا وشجرة البلوط.

فإن كل واحد من هذه الأسماء سيصبح خاصا بمسمى معين بين أفراد جنسه، ذلك أن “النكرة : كل اسم شائع في أفراد جنسه، لا يختص به واحد دون غيره كرجل، وامرأة، فكل منهما شائع في معناه لا يختص به هذا الفرد دون ذاك، فإن الأول (ويعني به رجل) يصحُّ إطلاقه على كل ذكر بالغ من بني آدم، والثاني (ويعني به امرأة) يصح إطلاقه على كل أنثى بالغة من بني آدم” (قواعد العربية للهاشمي ص83). ولو أضفنا رجلا وامرأة إلى سواهما مما هو معرف كرجل الأعمال وامرأة العزيز لخرجا عن دلالتهما على العموم إلى الدلالة على الخصوص.

وكذلك كلمة “لغة” لما أضفناها إلى “القرآن”، وهذا يستوجب سؤالا هاما، يتطلب الإجابة المقنعة، والسؤال هو لماذا وبماذا تتميز هذه اللغة بخصوصية إضافتها إلى القرآن، بالإضافة إلى كونها لغة كباقي اللغات الإنسانية يتواصل بها الناس لقضاء شؤون حياتهم، أو بعبارة أخرى لماذا نزل القرآن الكريم ـ الكتاب المعجزـ باللغة العربية خصوصا؟ لعل معالم الإجابة الشافية عن هذا السؤال وما يشبهه في هذا السياق تأتينا من القرآن نفسه، وهو خطاب رب العالمين للناس كافة، ذلك أن القرآن الكريم يصف اللسان العربي بأوصاف يبدو أنها تميزه عن غيره من الألسن وقد يجتمع القرآن واللسان العربي في بعض تلك الأوصاف، ولذا نستعرض هذه الآيات التي وردت فيها هذه الأوصاف وهي نوعان : نوع يختص بوصف اللسان، وأخر بوصف القرآن. ونستعرض في هذه الحلقة الآيات المتضمنة لأوصاف اللسان العربي فقط على أن نستعرض ما يتعلق بالقرآن في حلقة مقبلة إن شاء الله، وهي آيات ثلاث نوردها كما يلي. قال الحق سبحانه :

1- {وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل قالوا إنما أنت مفتر، بل اكثرهم لا يعلمون، قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا وهدى وبشرى للمسلمين، ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر، لسان الذي يلحدون إليه أعجمي، وهذا لسان عربي مبين”(النحل : 101- 102).

2- وقال : {وإنه لتنزيل رب العالمين، نزل به الروح الامين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين، وإنه لفي زبر الاولين}(الشعراء : 192- 196).

3-وقال : {ومن قبله كتاب موسى إماما ورحمة، وهذا كتاب مصدق لسانا عربيا لتنذر الذين ظلموا وبشرى للمحسنين}(الأحقاف : 12).

هكذا تعمدنا أن نقف عند الآيات التي ذكر فيها اللسان موصوفا بكونه عربيا زاده صفة مبين كما في الآية(1-2) أو كون اللسان نفسه مبينا لمزية من مزايا الكتاب الذي نزل كما هو الحال في الآية 39. وتتضمن الآية الأولى(1) مقارنة بين لسان أعجمي {وهو الذي يلحدون إليه} واللسان العربي الموصوف بكونه مبينا. في حين تتضمن الآية الثانية اللسان العربي المبين وهو الأداة الصالحة للإنذار إن لم تكن أصلح من غيرها لهذه المهمة، وهذا الوصف الأخير متوفر حتى في الآية الثالثة(3) بعد المقارنة بين الكتاب الذي يعتبر هذا اللسان الوسيلة الأولى لتبليغه مع كتاب قبله موسوم بالرحمة. هذه لمسات أولى لما يمكن أن يفهم من هذه الآيات.

وينبغي الوقوف على معاني الكلمات التي يمكن أن يكون لها دور في توضيح معنى كل آية على حدة في سياقها مثل : لَحَد، عجم، عرب. أبان بالنسبة للآية الأولى(1) وإمام -رحمة- صدّق… بالنسبة للثالثة، وهذا ما سنتطرق له في الحلقة المقبلة إن شاء الله.

د. الـحـسـيـن گـنـوان

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>