لنا عودة إلى القصة القرآنية


1- القصة القرآنية تربية وجمال:
تعد القصة في القرآن الكريم وجها من وجوه الإعجاز الذي لا ينتهي في هذا الكتاب الرباني العظيم، وكلما تأملنا القصة القرآنية تبين لنا عدم محدودية دلالاتها ومكنوناتها وجمالياتها، والأهداف التي تسعى إلى تحقيقها تجاه الإنسانية جمعاء، باعتبارها نصا توجيهيا يؤثر في النفس الإنسانية، بسبب ما يتضمنه من متعة السرد وجمال الإيقاع وعمق المعاني مما تميل إليه النفس وتألفه، يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} (يوسف،111)، وما كانت عبرة لأولي الألباب إلا لقوة تأثيرها في إصلاح القلوب والأعمال والأخلاق. فهي من أروع الوسائل التي تسعف على منح الإنسان قدرات لتجديد المفاهيم وتصحيحها ، وشحن النفس بطاقات تدفع عنها الضعف والغثائية والانحراف، وتلج بها حركات التدافع والتداول والارتقاء. لذا نجدها مهمة في تربية الطفل، تشكل وجدانه وعقله ولغته ومخيلته، وتساعد في نموها نموا سليما، ونجدها من المكونات الأساسية لثقافة الشباب، تحصن نفوسهم من رياح الاستلاب والتغريب والتهميش، وتدفعهم للتأمل والتدبر، وتنمي فيهم القيم الأخلاقية والجمالية وتجددها، وهي المربية للشعوب الساعية نحو التغيير والنهوض والجمال.
2- واقعية القصة القرآنية:
ونظرا لأهمية القصة في حياة الإنسان فقد وظفها القرآن الكريم في عرض مختلف المواقف والأحداث عرضا جماليا، وإن كان هذا العرض يخضع لمكون الانتقاء خدمة للأغراض الدينية. فالقصة في القرآن الكريم إحدى أهم وسائل التبليغ القرآنية المتعددة في الشكل، والمتحدة في الهدف، تنقل إلى الإنسان تجارب إنسانية مختلفة ومتعددة، وقعت في أزمنة وأمكنة معينة، لكن طريقة تقديمها وأسلوب عرضها المعجز في القرآن الكريم، يجعلها تنساب في حاضر المتلقي وعقله ووجدانه، كي يأخذ منها العبرة، ويعيد بها تجديد واقعه، يقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ}(يوسف:111). لذلك استعمل القرآن كلمة “قص” بمعنى التبليغ للوحي فقال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي}(الأنعام: 130). كما جعل من أهداف القصص التفكر وتثبيت القلب والفؤاد يقول تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}(الأعراف: 176). ويقول أيضا: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ}(هود: 120).
وقد اشتمل القرآن على عدد من قصص الأنبياء والرسل وعلى قصص غيرهم من الناس الأتقياء والأخيار والأشرار والكفار، رجالا ونساء، وعرض أحداثا وأنباء ومواقف وقعت فعلا في الحياة، بصدق ودقة {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ}(الإسراء: 105)، وأنطق شخصيات إنسانية وأخرى من عوالم مختلفة بلسان حالهم ومقالهم، دون أن يَدْخلها وَهْمٌ أو خيال، وأمدها بعناصر تتجلى فيها مظاهر التدبير الإلهي والتسيير الرباني التي تقوم شاهدة على واقعية القصة المعروضة ومصداقية عرضها، كما نجد مثلا في قصة يوسف، فواقعية القصة وطريقة عرضها ومصداقيته، تسندها بعض العناصر التي تؤكد ذلك، كعنصر المفاجأة في حدث استباق يوسف وامرأة العزيز إلى الباب، لما فوجئت المرأة بالعزيز أمام الباب. فهذا العنصر بالإضافة إلى أنه زاد من إثارة المتلقي وتوتر الأحداث اللاحقة، جلى واقعية الحدث المسير باللطف الإلهي. وهو عنصر لم يخرج عن المألوف في تسلسل الحدث وتطوره، فمفاجأة العزيز لامرأته وليوسف يبدو واقعيا نظرا لتواجدهما في بيته من جهة، ومن جهة أخرى فهو عامل حاسم على نجاة يوسف من الموقف. وكعنصر التوبة في لحظات الكشف عن الحقيقة، وإعلانها على الملأ، بصدق يوسف وعفته، وتوبة امرأة العزيز، وغير ذلك من العناصر الجمالية والإنسانية، التي تهدف، فيما تهدف إليه، إلى الكشف عن المنهج القويم للحياة الإنسانية الذي به يقع تغيير الأفراد والمجتمعات نحو الأحسن والأفضل.
3- دراسة القصة القرآنية وتدبر دلالاتها المعنوية والجمالية:
وقد اهتم عدد من الدارسين والباحثين بالقصة القرآنية، بشكل قد يوهم البعض بتضخم الحديث حولها، ويشكك في احتمال تقديم الجديد فيها، لكن تدبر القرآن الكريم دعوة مفتوحة أبد الدهر، وأي محاولة خالصة لله عز وجل يتدبر فيها الباحث القرآن الكريم تكون مأجورة بإذن الله، ولا تخلو من شرف خدمته. وهذه المشروعية ترفع الحرج في تناول القصة القرآنية، لأنها تكون محاولة لتوعية ذات الباحث وذات الأمة، بالثبات على الإيمان والاستزادة منه، وتمكين ما تتضمنه من فوائد وعبر في النفس، لتتقوى عزيمة المؤمن وتتجدد مع ما تثيره القصة القرآنية من حيوية تدفعه إلى نشدان التقوى والصلاح في كل أموره وعلاقاته وسلوكياته. كما تكون أداة لتوجيه حركية القارئ نحو التفاعل مع ما أتى به القرآن الكريم من خيرية ووسطية وتجديد وتدافع، والاهتمام بكل مظاهر التناسق والجمال الداعية إلى الإثارة، وتحريك منبهات النفس، وإثبات فاعلية بعض الشخصيات، وعدم ركونها نحو الجمود والتهميش، لأخذ العظة منها من أجل النهوض والتغيير.
والتنبيه لطبيعة السرد القرآني في تناول القصة وتداخل موضوعاتها، وتوحدها وتقديم شخصياتها، وتصوير جوانب من مواقفها، وتناغم كل ذلك مع عمق معانيها وثراء دلالاتها في السياق الواردة فيه، يجعل المتلقي يستفيد من قيمها الجمالية والإنسانية في تصحيح ذائقته الجمالية، واستثمارها في تجديد رؤاه وأساليبه، سواء في الحياة أو في الكتابة.
دة. سعاد الناصر

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>