اللغة.. والأدب.. والتاريخ


يبدو أن كثيراً من المتعاملين مع “التاريخ” من الطلبة وعدد كبير من الدارسين والمدرّسين، بل حتى الأساتذة، لا يملكون الإلمام الكافي باللغة، ولا يعرفون شيئاً يذكر عن الأدب في سياقاته المختلفة، ومن ثم تجيء بحوثهم وهي لا تملك سلامتها اللغوية ولا الحدّ الأدنى من جماليات الأسلوب الضرورية في الخطاب التاريخي. والحق أن العلاقة بين اللغة والأدب وبين التاريخ ليست حالة بسيطة، أو وجهاً واحداً، أو صيغة مسطحة، إنما هي علاقة مركبة متشابكة سنكتفي بالتأشير على بعض جوانبها في صيغة خطوط عريضة حيث لا تسمح زاوية كهذه بتقديم التفاصيل.
أولاً: اللغة والأدب خبرة معرفية تسهم في تشكيل الفعل التاريخي- الحضاري، وهي تندرج في سياق العلوم الإنسانية لتمييزها عن العلوم الصرفة أو التطبيقية.
إن دراسة تاريخ اليونان، أو الثورة الفرنسية، أو التاريخ الأندلسي -على سبيل المثال- لا تستكمل أسبابها دون دراسة اللغة والأدب في البيئات المذكورة.
ثانياً: اللغة والأدب خبرة ثقافية تساعد في تأصيل الفعل الحضاري ومنح الحضارات خصائصها وتميّزها. إن دور الأدب الرؤيوي للوجود والمصير.. القصيدة العربية.. آليات اللغة.. صيغ التعبير.. التقنيات الإبداعية.. طرائق الخطاب، لممّا يميّز أمتنا ثقافياً وبالتالي حضارياً.
ثالثاً: الأدب صيغة ذات حساسية خاصة في التعبير عن الوضع التاريخي والحضاري، وهي تعكس بتقنيّاتها الكثير من مفردات الفعل التاريخي والحضاري.
إن دراسة الواقعة التاريخية كدولة (مثل الدولة الحمدانية) على سبيل المثال، أو كحلقة حضارية (مثل النهضة الإيطالية)، أو كتجربة سياسية – عسكرية (مثل الحروب الصليبية) لا تتحقق دون الرجوع إلى أدباء كأبي فراس والمتنبّي ودانتي والعماد الأصفهاني.. إلى آخره.
رابعاً: اللغة والأدب من الأدوات المساعدة أو الموصّلة للحقيقة التاريخية، لا يمكن الاستغناء عنها، مع ضرورة الحذر من إشكالية التداخل في المعطى الأدبي بين الذات والموضوع.
خامساً: بالانتقال من العام إلى الخاص نجد كيف تصير اللغة والأدب من الأدوات الضرورية للتعبير في نطاق البحوث الخاصة. فاللغة تمنح صياغة البحث التاريخي سوّيته المطلوبة، والأدب يمنح المؤرخ حساسية حادة وخيالاً نافذاً لتجاوز ظواهر الأشياء والأحداث والشخوص والخبرات صوب الجوهر والمغزى ومقاربة الحقيقة التاريخية. إن معضلة الكثيرين من طلبة الدراسات العليا في التاريخ، والعديد من التدريسيين والباحثين فيه أنهم لا يملكون أسلوباً محكماً في التعبير ولا قوة خيال تمكنهم من تجاوز الثغرات. إنهم -إذا استخدمنا عبارة أزوالد شبنغلر- لا يزيدون عن أن يكونوا منظّفي أتربة أكاديميين.
سادساً: يلتقي الأدب مع التاريخ في تعامله مع الزمن ومحاولة تغطية امتداداته الثلاثة، الماضي والحاضر والمستقبل، كل بأسلوبه الخاص.
سابعاً: يعتمد الأدب -بأنواعه- على الواقعة التاريخية في مساحات واسعة من أنشطته الإبداعية (من مثل ملحمة الإلياذة وقصائد أبي تمام والبحتري، ورواية (الحرب والسلام) لتولستوي) إلى آخره.

ثامناً: تاريخ الأدب كما يدلّ عليه اسمه، عمل في التاريخ، وبأدوات البحث التاريخي، بعد إضافة النصّ الإبداعي إليها.
تاسعاً: الأدب يعد مورداً خصباً للتوثيق الذي يخدم الحقيقة التاريخية ويصونها من الضياع، وذلك بسبب قدرة الذاكرة البشرية على استيعاب النّص الإبداعي.
عاشراً: يمثل فن الترجمة والسيرة الذاتية لقاءً حميماً بين الأدب والتاريخ بسبب تداخل المفردات في الحقلين. وأخيراً، فإن المؤرخ الكبير هو -بالضرورة- لغوي وأديب كبير بما تمنحه إياه اللغة والأدب من أدوات عمل وخلفيات ثقافية وتمرين عقلي تمكنه -جميعاً- من أداء عمله بأكبر قدر من الإتقان والإبداع، وبما يمنحه البحث الجاد في التاريخ من إلمام بمطالب التعبير وطرائق الخطاب الأدبي.
أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>