أ- “عـرض وتـعـلـيـق”
ذيلنا هذه المرة العنوان العام الذي تعودنا أن نناقش تحته ما بدا لنا أن استعماله غير سليم من الكلمات التي جردناها من الفصل الثاني من كتاب اللغة العربية الصحيحة بعنوان فرعي هو : “عرض وتعليق” ونعني بالعرض مناقشة ما بقي من الأخطاء في الفصل المذكور. أما التعليق فسنحاول أن نجمل القول فيه عن كل ما ناقشناه -ونناقشه- من الأخطاء حتى الآن في هذا الكتاب، مع التنصيص ما أمكن على المستوى الذي يمكن تصنيف كل خطأ فيه من مستويات الدرس اللغوي العربي، أهو المعجم، أم النحو، أم التصريف… الخ مع عدم إغفال الهدف الذي يسعى المؤلف إلى تحقيقه من تأليفه هذا الكتاب بالعنوان الذي وضعه له : “العربية الصحيحة” ويتعلق الأمر بخصوص الأخطاء في هذه المرة بأربعة من حروف الجر، سنورد كل واحد منها في السياق الذي أورده فيه المؤلف، بعد أن نوضح ولو بإيجاز الوظائف العامة والخاصة لحروف المعاني التي تعتبر حروف الجر منها فكيف ذلك؟ حروف المعاني : معانٍ ووظائف : حروف المعاني تشترك في وظيفة (تركيبية) عامة، ثم ينفرد كل نوع منها بوظيفته التي تحدد مجاله الدلالي فقط أو الدلالي والتركيبي، ويختص كل حرف ضمن نوعه بوظيفته الخاصة به، أو عدة وظائف، فثمة مجال عام تشترك فيه كل حروف المعاني، وهناك مجالات متنوعة حسب تنوع حروف المعاني بحيث يختص كل نوع منها بمجاله وأخيرا استعمال كل حرف ضمن نوعه في وظيفته الخاصة، أو عدة وظائف حسب السياقات التي يرد فيها، ونوضح بإيجاز هذه المجالات بأمثلتها ما أمكن -بعد أن نميز بين حروف المباني وحروف المعاني- فيما يلي:
حروف المعاني غير حروف المباني، فحروف المباني هي التي تتألف منها الكلمات التي ننطق بها سواء كانت أسماء مثل محمد، وعلي.. أم أفعالا مثل كتب، وفهم، أم صفات مثل واقف، وسعيد، فكل كلمة من بين الكلمات المذكورة تتألف من مجموعة من الحروف تسمى حروف المباني، وليس هذا هو النوع المقصود عندنا في هذه المقالة، وإنما الذي نعنيه هو النوع الثالث من أنواع الكلمة في اللغة العربية، لأن أنواع الكلمة في اللغة العربية ثلاثة هي : الاسم، والفعل، والحرف. وهذا الحرف هو الذي يسمى حرف معنى. وهو عبارة عن حرف واحد مثل “ب” أو حرفين مثل “من” و”عن” و”في” وقد يتألف من ثلاثة أحرف مثل “ليت” و”لكن”… وسميت حروف المعاني لأن كل واحد منها له معنى يدل عليه في التركيب أو عدة معانٍ حسب السياق الذي يرد فيه.
ونلخص وظائف هذا النوع من الحروف العامة والخاصة كما يلي :
أ- الوظيفة العامة التي تشترك فيها كل أحرف المعاني هي الاختصار أي اختصار الكلام في اللغة العربية، فكل حرف منها ينوب (في الغالب) عن جملة في سياق معين، وهذه الجملة المضمرة في أي حرف من حروف المعاني تفسرها وتوضحها تسمية الحرف عند إعرابه. فنحن عندما نعرب كل حرف من أحرف المعاني التالية في تراكيبها : {إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي لغفور رحيم}(يوسف : 53). {ولكنا حملنا أوزار من زينة القوم فقذفناها..}(طه : 87) و {ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما}(القصص : 79). فنحن نعرب حرف “إن” : حرف توكيد “ولكن” حرف استدراك.. و”ليت” حرف تمن، وعليه يكون معنى “إن” : أأكد، و”لكن” : أستدرك، و”ليت” : أتمنى. ومعلوم أن هذه الكلمات التي نابت عنها الأحرف أفعال، وكل فعل لا بد له من فاعل، وهذا الفاعل إما أن يكون منطوقا (ظاهرا) مثل كتب محمد ونجح سعيد، وإما أن يكون مستترا أي غير ظاهر، لكنه يفهم من الفعل كما هو الشأن في الأفعال المذكورة أعلاه التي قلنا إن أحرف المعاني تنوب عنها. ذلك أن نظام اللغة لا يسمح بوجود فعل بدون فاعل ظاهر أو مستتر: وفي هذا يقول ابن مالك
وبعد فعل فاعل فإن ظهر
وإلا فهو ذو ضمير استتر
وعليه يمكن القول بأن كل فعل فسر به حرف من أحرف المعاني في إعرابه يتضمن فاعلا يكوِّن معه جملة فعلية. ولذا قلنا إن أحرف المعاني تنوب عن الجمل، وهذه هي الوظيفة العامة التي تشترك فيها كل أحرف المعاني، وهي وظيفة اختصار الكلام، وهي أشبه بوظيفة الضمائر وياء النسب. ولذا قيل :
الاختصار جلُّ مقْصُود العَرَبِ
لِذَا اتَوْا بمُضْمَر وبالنَّسَبْ
وفي هذا السياق يقول ابن جنى “…قال أبو بكر : حذف الحروف (ويعني حروف المعاني) ليس بالقياس. قال : وذلك أن الحروف إنما دخلت الكلام “لضرب من الاختصار” هو أنك إذا قلت : ما قام زيد، فقد أغنت(ما) عن “أنفي) وهي جملة فعل وفاعل، وإذا قلت : قام القوم إلا زيد، فقد نابت (إلا) عن (أستثنى) وهي فعل وفاعل وإذا قلت : ليت لي مالا، فقد نابت (ليت) عن (أتمنى)، وإذا قلت أمسكت بالحبل، فقد نابت الباء عن قولك : (أمسكته مباشرا له، وملاصقا يدي له، وإذا قلت : أكلت من الطعام، فقد نابت (من) عن البعض، أي أكلت بعض الطعام وكذلك بقية ما لم نسمه.” (الخصائص 2/273-274. وهذا ما نعنيه بالوظيفة العامة لأحرف المعاني.
ب- الوظيفة الخاصة – العامة : نظرا لتنوع أحرف المعاني فإن لكل نوع وظيفته الخاصة بالنظر إلى علاقته بأحرف المعاني ككل، وتكون هذه الوظيفة عامة في ذات الوقت باعتبار ما ينضوي تحت كل نوع من أفراد. فثمة أحرف للنداء مثل : يا، وأيا، وهيا، وأحرف للإضافة (الجر) مثل الباء، ومن، وفي، وعلى.. وأحرف للعطف مثل الواو، والفاء، وثم.. فكل أحرف كل نوع تشترك في الدلالة على ذلك المفهوم، وعليه يكون المفهوم عاما بالنسبة لتلك الأنواع من الحروف وهو خاص بالنسبة لعلاقته بحروف المعاني عامة. وعليه يمكن القول بأن ثمة وظائف نوعية تحددها تسمية كل نوع لما ينضوي تحته من الحروف التي قد تقل أو تكثر، فثمة وظيفة للنداء، وأخرى للعطف وثالثة للاستفهام وهكذا تحدد هذه الوظائف أنواع أحرف المعاني التي تتجاوز خمس عشرة وظيفة حسب ما ورد في بعض المراجع فقط.
حـ- الوظيفة الخاصة : كل حرف ضمن مجموعة نوعه يختص بوظيفة دلالية، أو عدة وظائف، لا يشاركه غيره فيها من حيث أصل الاستعمال فحروف العطف مثلا تشترك في إفادة العطف، لكن كل واحد منها يتميز بدلالة خاصة في سياق العطف. فالواو المطلق الجمع بين المعطوف والمعطوف عليه، والفاء للترتيب مع التعقيب، وثم الترتيب مع التراخي وهكذا بقية أحرف كل نوع في مجاله.
والنتيجة التي نريد أن نصل إليها هي أن من أخطأ في استعمال حرف من أحرف المعاني، يكون خطأه مركبا، بناء على ما مضى من الوظائف، لأنه يحتمل الخطأ في الاختزال، وفي دلالة النوع، ثم دلالة الحرف الخاصة، وهذا ما ينطبق على ما نرى أن استعماله غير سليم مما ورد منه عند مؤلف كتاب اللغة العربية الصحيحة في الفصل الذي نناقش ما ورد فيه من أخطاء، ونعرض نماذج منها كما وردت عند المؤلف كما يلى : يقول :
1- “… ولهذا نجد كثيرا من جهابذة النحاة، والمهرة في صناعة العربية.. إذا سئل (في) كتابة سطرين إلى أخيه.. أو شكوى ظلامة أخطأ فيها (عن) الصواب…” ص28 س 18-22.
2- “التركيز على تنمية المهارات اللغوية العربية، وهي فهم اللغة منطوقة ومكتوبة والتعبير الشفوي والكتابي (عنها) ص 29 س 7.
3- “محاسبة الطالب في كل فرع من فروع اللغة العربية… حتى لا يتخرج (في) قسم اللغة العربية إلا من يتمكن من هذه اللغة تمكنا تاما” ص 29 س 12-13.
4- ثم تعرض البحث لفروع النقد والبلاغة الذي لا يميل إليه الطلاب وعلل ذلك بما يلاحظ في منهج هذه المادة من عموميات لا تأخذ (في) الاعتبار حالة الطلاب الثقافية…” ص 30 س7-8.
5- وانتهى الباحث إلى وجوب إعادة النظر في خطط إعداد المعلم وأوصى بضرورة إجادة اللغة العربية كتابة وقراءة وتحدثا (في) كل من يقوم بالتدريس…”(ص 30 س 10-13).
6- إعداد النصوص للتسجيل في معمل اللغات للاستفادة (بها) في تدريب الطلاب على السماع والتذوق” ص 31 س 12.
ونحن نزعم أن حروف الجر الواردة في النصوص أعلاه مما وضعناه بين قوسين مستعملة في غير ما يناسب وظائفها الخاصة التي ترد لها ونشير في هذه المرة إلى ما يمكن أن يعتبر صوابا في استعمال كل حرف من ا لحروف المذكورة. على أن نعود إلى الموضوع بتفصيل إن شاء الله. لأن الأمر يقتضي دراسة المسألة من جانبين : أولهما عرض أقصى ما يمكن من دلالات كل حرف وثانيهما مدى صلاحية علاقة كل فعل بالحرف الذي عدي به في الاستعمال العربي الصحيح. وقبل هذا يمكن أن نقول في التصحيح الأولي : إذا سئل عن كتابة سطر بدل في.. والتعبير الشفوي بها بدل عنها … وحتى لا يتحرج من قسم اللغة.. بدل في.. ولا نأخذ بعين بدل في… (يتبع).
د. الـحـسـيـن گـنـوان