هذا الملف – لا خير في أمة لا تخدم أدَبَها ولا خير في أدب لا يخدم أمته


الأدب لسان حال الأمة في الأمور المهمة والخطوب المدلهمة، يعبر عن آلامها وآمالها، وعن أفراحها وأقراحها، ويعبر عن تصوراتها وتصرفاتها، ويدعم قيمها وأخلاقها، ينقل أخبارها عبر الأزمنة والأمكنة على وجه التدقيق والتحقيق، ويكشف عن المشاعر والوجدان عبر الحكمة وسحر البيان، تجد فيه ذات كل إنسان ما يحقق الوجود ويملأ الوجدان حتى إنه ليصح أن يقال : إنما الأمم آدابها، لأنها ترجمان ألبابها، وبها نيل أوطارها ومآربها، لذلك فلا خير في أمة لا تعنى بآدابها ولا خير في آداب لا تخدم قضايا أمتها. ولقد أدركت أمة المسلمين منذ بعثها الله برسالة الإسلام قيمة الأدب في تهيئة النفوس لاستقبال كلمة الحق بحق الكلمة، وفي الدعوة إلى الخير والفضيلة والحكمة، فكان الأدب لا ينفصل عن الدين: فبالأدب فُهم الدين وأدرك الناس مقاصده وأسسوا قواعده، وبالأدب دُعي إلى الدين ورغبت فيه الأمم واستنهضت الهمم، وبالدين استقام الأدب على النهج القويم، وأبدع أهله الأدب الصحيح السليم، واتسع الاهتمام به فكثر أناسه، وتنوعت أجناسه وجادت وطابت أنفاسه، فصار الأدب قولا بليغا لأنه ينهل ويصدر عن القول البليغ القرآن الكريم، وكان كلما تشبعت النفوس بالقول البليغ صلح أدبها وجاء على وزان الرؤية القرآنية للكون والحياة والمصير تفكيرا وتعبيرا وتدبيرا، وكلما ابتعد أهل الأدب عن هذا القول البليغ تناءت بهم السبل وخرجوا عن الفطرة وأفسدوا وإن راموا الإصلاح. وعلى العموم فقد مرت الأمة في تجربتها التاريخية بمرحلة تواشج فيها الأدب مع الإسلام تواشجا عميقا صعب الفصل بينهما فلم يكن يميز بين الإسلام والأدب، ولا بين رسالة الأول ورسالة الثاني، فكان الأدب إسلاما والإسلام أدبا، ولا بين الحضارة والأدب فالأدب حضارة والحضارة أدب…
ولما ابتعدت الأمة عن هذه الرؤية القرآنية والرسالة الحضارية للدين والأدب، تنازعتها مذاهب الأمم، فبعدت عن أصول الديانة، وفسد ميزانها فتلعثم لسانها وعجز عن الإعراب والإبانة، وفقدت حكمتها، وتضخمت غرائزها، فساء أدبها، وانخلع من ربقة الدين وتحلل من رسالته الحضارية واستحال جوهرا ومظهرا إلى جنس من القول يعسر قضمه أو هضمه، حتى كاد أن يعسر على الطبيب علاج سقمه، فتاهت الأمة ما شاء الله لها أن تتيه، كما تاهت في جوانب أخرى، إذ التيه الأدبي ليس إلا فرعا عن التيه عن أصول التصور والنظر، وانحرافا عن الوجهة الحق في الطلب. غير أن هذه الأمة كتب الله بقاءها وحكم بأمره الذي لا يرد أن لا ينقطع منها الأخيار، ووعد جل وعلا -ووعده صادق- أنه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة عام من يجدد في الناس تدينهم ويعيد إليهم نعمة الوصل ومنحته بعد أن عانوا من نقمة الفصل ومحنته ، فظهرت ثلة من الأخيار تدعو إلى وصل الأدب بأصوله الإسلامية وبروافده الإيمانية، فأنشئت الدعوة إلى الأدب الإسلامي وقيد الله له رواحل من أهل الفكر السديد، والنظر البعيد، أحيت روح الأمة بجميل الإنشاد، وقويم الإبداع والإنشاء. غير أن حاجة الأمة لا تزال قائمة إلى توسيع دائرة الاهتمام بهذا الأدب الإسلامي، وتنشئة أجيالها على النهل من أدبها الجميل للحفاظ على دينها الجليل، والحفاظ على جذوته من الانطفاء، وحماية دعاته من الانكفاء والانطواء، وفي هذا السياق تفتح جريدة المحجة هذا العدد لإحياء الاهتمام بهذه القضية، ونرجو الله العلي القدير أن يجد قراؤنا الكرام في مقالاته ما يحقق المطلوب ويوصل المرغوب، وقبل ذلك وبعده لا نملك إلا أن نتقدم بالشكر الجزيل والعرفان بالجميل لكل من أسهم في هذا العدد من كتاب وجنود في الخفاء، ونرجو الله العلي القدير أن يرزق الجميع التوفيق والسداد والهدي والرشاد.
> بقلم : د. الطيب الوزاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>