من أسباب ضعف لغتنا العربية في مدارسنا الثانوية


مسألة ضعف التلاميذ ببلدنا، علميا ووظيفيا: في القراءة والكتابة والتعبير والاستيعاب والتواصل، وفي تحصيل علوم اللغة، وفي الإقبال عليها. مسألة مقررة لا خلاف فيها بين المربين ومدرسي اللغة العربية. فالتلميذ المغربي -مع بعض الاختلاف من منطقة إلى منطقة- لا يعرف لغته العربية ولا يحسن استخدامها حتى لتبدو حصة “اللغة العربية” في المدارس مثل حصة اللغة الأجنبية، وذلك على الرغم من الجهود التربوية الكبيرة التي تبذل في مختلف مراحل التعليم، كان آخرها تغيير المناهج والمقررات الدراسية، ففي مادة اللغة العربية، استحضر الإصلاح التربوي بيداغوجيا الكفايات ونظام المجزوءات، رافعا شعار ا مركزيا هو “الجودة” وذلك بهدف الرفع من مستوى التلاميذ ومسايرة المستجدات الثقافية والإبداعية العربية بصفة عامة، والمغربية بصفة خاصة. وعلى الرغم مما بذل من مجهودات، مازلنا نجد تلامذتنا يتخبطون في دراستهم ويصطدمون بعقبات تحول دون قدرتهم على الأداء اللغوي السليم، نطقا، وكتابة،وفهما…وصار كلامهم ركيكا ليس عربيا فصيحا ولا فرنسيا صحيحا ولا إنجليزيا صريحا، بل وليس دارجيا واضحا. مع العلم أن أهمية التعليم تتعاظم يوما بعد يوم إلى درجة أن الكثير من دول العالم تعتبره قضية استراتيجية كبرى تأتي أولويته مثل أولوية الدفاع والأمن القومي سواء بسواء، وذلك على أساس أنه العامل الأقوى لإحداث الحراك الاجتماعي ودعم البنية الاقتصادية. والمحقق لشرط الحضارة في العصر الحديث.
يبقى السؤال الجوهري المطروح، ما هي الأسباب الحقيقية وراء ضعف تلامذتنا؟. بعد بيداغوجيا الكفايات ونظام المجزوءات وشعار الجودة..والمخطط الاستعجالي، وهلم جرا.
أسـبـاب الـضـعـف:
قد ترجع الأسباب في ظاهرها إلى الأطراف المتداخلة، والعناصر التقليدية، في عملية تعليم اللغة العربية، كأي عملية تربوية.. وهي المنهج، والمعلم، والطريقة، والدارس، والمدرسة، والتقويم أو التوجيه، والاكتظاظ، والخريطة المدرسية، وغيرها من الأسباب…وهناك اجتهادات كثيرة مطروحة لعلاج هذه الأسباب. غير أنني أرى أن الأمر يختلف هنا من حيث المصادر الحقيقية لمشكلة ضعف اللغة العربية في مدارسنا، والتي يجب معرفتها والوعي بها جيدا، حيث تنعكس آثارها بشدة على كياننا وعلى مختلف أوجه نشاطات حياتنا، ومنها بطبيعة الحال عملية التعليم وطبيعة المتعلم… من هذه الأسباب، ما يلي :
1- اللغة الأجنبية :

إن أحد أسباب الصعوبة التي يجدها الأطفال في تعلم اللغة العربية هو فرض لغة أجنبية عليه في المدرسة في سن مبكرة، وإن ازدواجية اللغة في هذه السن المبكرة هي الخطر الحقيقي الذي تتجنبه كل دول العالم، من ذلك ((فرنسا شرعت في سنة 1994 عقوبة للذي يستخدم غير الفرنسية، في الوثائق والمستندات والإعلانات المسموعة، والمرئية وكافة مكاتبات الشركات العاملة على الأرض الفرنسية وبوجه خاص المحلات التجارية والأفلام الدعائية التي تبث عبر الإذاعة والتلفزيون… وأوصت بعقوبة السجن أو الغرامة المالية تصل إلى ما يعادل ألفي دولار))(1).
وفي بريطانيا: أصدر المجلس القومي لمعلمي اللغة الإنجليزية قراراً يقضي بأن على كل معلم أن يكون معلماً للغة الأم أولاً؛ ذلك لأن تعليم اللغة إنما هو مسؤولية جماعية، وجميع المعلمين مهما تكن اختصاصاتهم ينبغي لهم أن يعلّموا اللغة الأم من خلال تعليم موادهم))(2).
وفي إسبانيا: اجتمع أعضاء البرلمان بعد انتخاب خوسيه لويس ثاباتيرو رئيساً للحكومة الإسبانية في 14 مارس 2004 م تحت قبة البرلمان، وحاول ممثلو إقليم قطلونيا استعمال اللغة المحلية، غير أنهم فوجئوا بالرفض الشديد من مانويل مارين رئيس البرلمان، الذي منعهم من استعمال اللغة المحلية، لما تمثله من خطر من شأنه أن يهدد اللغة الإسبانية الرسمية، وقد استشهد رئيس البرلمان بالمادة الثالثة من الدستور الإسباني، التي تنص على أن اللغة الإسبانية هي اللغة الرسمية التي ينبغي لجميع أبناء الشعب استعمالها))(3).
والأمثلة على ذلك كثيرة. وها نحن أولاء نلاحظ على الصعيد العالمي أنه ما من شعب أراد الحياة العزيزة الكريمة إلا وتمسك بلغته الأم أمام اللغات الغازية. فأين هذا من معاناتنا اللغوية، أو مأساتنا اللغوية في مدارسنا، وجامعاتنا ومعاهدنا، ومحلاتنا التجارية ودوائرنا الرسمية التي تمارس علينا، أو تفرض علينا عملية التعجيم، وتكسير موازين وقواعد اللغة العربية؟.
ولعل أخطر ما تحمله الثنائية، التعارض بين الثقافات والمفاهيم التي تحملها كل لغة، فليست اللغة -كما يقول ابن جني- مجرد كلمات وأصوات يعبر بها كل قوم عن حاجاتهم فقط وإنما هي في الحقيقة -إلى جانب ذلك- مستودع هائل للفكر والثقافة والمعرفة التي تراكمت عند هذه الأمة أو تلك عبر الأجيال المتعاقبة وتكمن الخطورة في الثنائية في عملية الطرد والإقصاء والتنحية للثقافة الأم.
لذلك نقول هنا: ((إن أخطر ما تواجه الأمم، هو التعبير بأوعية الآخرين، والتفكير بوسائل وأدوات وآليات الآخرين، وإن عدم التعريب، يعني التغريب مهما حاولنا اعتبار اللغة أداة توصيل، وهمشنا دورها في التفكير، وتجاهلنا علاقة التعبير بالتفكير والنقل الثقافي))(5).
2- اِستعمال العامية في الدرس :
وبجانب الاكتساح اللغوي الأجنبي، نجد إحلال العامية مكان اللغة العربية الفصحى، حيث ((بدأ يستفحل استعمال العامية في الإعلام والتعليم كذلك، ففي الثا نويات -ولا نتحدث عما دونها- وكذلك في الجامعات، وحتى في أقسام الدراسات العليا يتزايد استعمال الطلبة والأساتذة للهجاتهم العامية، أو الخلط بين الفصحى والعامية))(6).
فالتلميذ في ثانويتنا بل في مدارسنا يجد نفسه في وضعية صعبة عندما يحاول الإجابة باللغة العربية الفصيحة على سؤال وجه له من قبل أستاذه، بل الأدهى والأمر من ذلك تثير إجابته بالفصحى انتباه زملائه في الفصل فلا تسمع لهم إلا همسا وسخرية واستهزاء وضحكا…، والغريب في هذا، أن الأستاذ الذي يتحدث العربية ويلزم نفسه بها في القسم وخارجه يصبح هو الآخر محط سخرية وحديث بين التلاميذ والمجتمع فيشيرون إليه بالأنامل وكأنه أحدث أمرا. بل إن المشكلة تبدو أكثر تعقيدا، عندما نجد بعض أساتذة العربية وغيرهم من أساتذة المواد العلمية على غرار الرياضيات والفيزياء وغيرها يقدمون دروسهم بالدارجة المغربية -مع العلم أن الكتب المدرسية مكتوبة بالفصحى- لا يتمكنون من إلقاء محاضرتهم كاملة متصلة… وآخرين يوصلون المعلومات بلغة عامية أو عربية ركيكة، مما يؤدي إلى ملء أسماع تلامذتهم وذاكرتهم بالعجمة، وباللحن الذي ينشرونه في أوساط المؤسسات التعليمية، معللين استخدامهم لها بأنها سهلة وأسلوب معين على الفهم والاستيعاب.
حتى الذين يجتهدون في تقديم دروسهم لتلامذتهم باللغة الفصحى، تشعر بهم، أنهم يتصنعون في أغلب الأحوال، فتأتي لغتهم مخلوطة بكثير من الأخطاء تتفاوت قلة وكثرة، وهو دليل آخر على أن الذين يستخدمونها لا يملكون سليقة لغوية سليمة،فالمتكلم باللغة على السليقة لا يخطئ فيها، وإنما يخطئ من يتكلف. وفي تقديري يمكن إعذار التلميذ -نوعا من الإعذار- إذا استعمل اللهجة العامية واللسان الدارج، لأن المسؤولية الكبرى تقع أولا على الأستاذ، حينما يهمل استعمال الفصحى في الدرس فإنه يؤكد للطفل أن اللغة العربية إنما هي مادة من المواد، وليست أداة للتواصل. وتقع ثانيا على القيادة الإدارية والأحزاب السياسية والنقابية… حينما تتعامل مع العربية بالإهمال أو التجاهل، فهي إنما ترسل رسالة إلى الطفل الناشئ والمواطن العادي بأن ذلك جائز في حق هذه اللغة، وأنه لا ضير من التساهل مع أنفسهم إزاء لغتهم. وتقع ثالثا وسائل الإعلام حينما تكثف من بث المواد الإعلامية بالعاميات، هي أيضا تؤكد للتلميذ والمواطن المغربي أن العربية الفصيحة مكانها جدران القسم المدرسي وليست الحياة بمعناها الواسع.
مما يتيح للعامية واللغات الأخرى السيطرة على ذهن التلميذ ولسانه خارج القسم في البيت والمعمل والشارع. لقد أصبح ضعف اللغة العربية من البداهة بمكان، وذلك من منظور يعود إلى رواسب الجهاز الاستعماري الذي كان يسير بالبلاد حثيثا إلى مصير قاتم، وحل محله أناس من جلدتنا ويتكلمون لغتنا ولكن قلوبهم غير قلوبنا فحملوا عن ساداتهم عبء المعركة وتناولوا معاول الهدم بأيديهم فتنادوا باستبدال اللغة العربية باللهجات المحلية أو ما يسمى بالدارجة المغربية، يقول الأستاد امحمد طلابي : ((لقد عقدت بالمغرب عدة ندوات وطنية ودولية حول المسألة اللغوية، وحول اللغة العربية وباقي مكونات الخريطة اللغوية بالمغرب.
فتنادت فئة من المثقفين المغاربة. قليلة العدد بالتأكيد، إلى ضرورة إبقاء الوظائف العليا للسان العربي بالمغرب في حوزة اللسان الفرنسي أو استبدال اللسان العربي الفصيح باللهجات المحلية أو ما يسمى بالدارجة المغربية))(7) مخالفين تماما لكل الأنظمة التعليمية في العالم المتقدم.
3- الـمُعامــل :
يعد معامل المادة من الأسباب المباشرة التي تدفع التلميذ إلى الإقبال عليها أوالنفور منها، ويقاس هذا الإقبال والاهتمام عند التلميذ بأي مادة، بما لها من معامل يعلي من شأنها، ويزيد من خطرها في نظره، خصوصا إذا علمنا أن التلميذ لا يدرس إلا للامتحان، ولا يهتم بالمادة إلا للنقطة. كيف يقتنع تلميذ ناشئ بأهمية مادته العربية، ومادته من بين المواد التي يقل معاملها في المواد العلمية، وتتساوى مع اللغة الفرنسية في المواد الأدبية؟ ولا يختبر فيها في السنة الأولى باكلوريا،تخصص أدب،ويكتفون بامتحانات المراقبة المستمرة.
ففي المواد العلمية لدى العلميين، نجد المعامل مرتفعا ارتفاعا لافتا للنظر، يتأرجح بين درجة “سبعة وتسعة” الرياضيات، مثلا عند علوم الحياة والأرض، تضرب في سبعة وعند العلوم الرياضية، تضرب في تسعة،وقس على ذلك باقي المواد العلمية الأخرى، ربما يكون لهذا الارتفاع من المسوغات ما لا يمكن دفعه ولا معارضته، فإننا نتساءل عن ارتفاع معامل اللغة الفرنسية لديهم يجعلها في مصاف المواد العلمية الأساسية، في مقابل معامل اللغة العربية الذي يساوي ثلث معامل الفرنسية nمع العلم أنها مواد عربت – ومن جانب آخر، فإننا حين نقارن بين العربية وبين اللغة الانجليزية والإسبانية…. فإننا نجد المعامل الذي خصص لها هو نفسه ما خصص للعربية.
قد يرد علينا أحد، إن المقارنة بين اللغة العربية، والمواد العلمية في هذه التخصصات، زغير مقبولة ولا مجال لذكرها، “طيب” فماذا نقول عن المعامل الذي خصص للعربية في الشعب الأدبية، اللغة العربية في السنة الثانية باكلوريا، معاملها في العلوم الإنسانية “ثلاثة” و”الأدب” أربعة”،…. وخاصة إذا علمنا أن المعامل المخصص للفرنسية مساء هنا لما خصص للعربية، ومعادل هناك لما خصص للمواد العلمية الممثلة للتخصص، فإننا نسجل اهتماما زائدا بل مبالغا فيه باللغة الفرنسية يفوق الاهتمام بغيرها.
إن هذا الوضع كان وما يزال له انعكاسٌ حتما على مقدار اهتمام التلميذ باللغة العربية وارتباطه بها، حيث قل شأنها لديه، وضعف اكتراثه بها وأصبحت عنده مادة ثانوية مهمشة، لا يبالي بحصصها، ولا يحضر دروسها، وخصوصا العلميين منهم، ويجعلها هزيلة الوزن، عديمة الفعالية. هذه في اعتقادي بعض أهم الأسباب التي أضعفت لغتنا في ثانوياتنا بل في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا، نرصدها ولا نملك سوى الإشارة إلى خطرها على مستقبل تلامذتنا، ولغتنا، وفكرنا، وبلدنا، أما علاجها فبيد من يملكون الحل والعقد، ونحن لانملك من ذلك سوى السبورة والطبشورة، وتنفيذ ما يأتنا من “عل” من وزارتنا.
د. حسن الشارف
———
1- من تقديم عمر عبيد حسنة لكتاب الأمة 42في شرف العربية، الدكتور إبراهيم السامرائي، ص31.
2- خطة عمل وطنية لتمكين اللغة العربية، والحفاظ عليها والاهتمام بإتقانها والارتقاء بها، إعداد لجنة تمكين اللغة العربية في سورية، ص6.
3- المرجع نفسه، 305.
5- من تقديم عمر عبيد حسنة لكتاب الأمة 42في شرف العربية، الدكتور إبراهيم السامرائي، ص 30.
6- العدد نفسه، ص 12.
7- التعريب بين الوعي المفوت والوعي المطابق، أمحمد طلابي، مجلة الفرقان، العدد 65ا / 1431-2010، ص 5.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>