الدكتور فؤاد بوعلي في حوار خاص بجريدة الـمحجة


بمناسبة الملتقى الوطني الثالث للغة العربية نرحب بالدكتور فؤاد بوعلي ضيفا كريماً على صفحات جريدة الـمحجة لمناقشة عدة قضايا تتعلق باللغة العربية، ونبدأ معكم من السؤال الأول التالي:
> أولا ما هي قيمة اللغة العربية في التراث الحضاري الإسلامي ثم التراث العالمي؟
>> شكرا للإخوة في إدارة جريدة المحجة الغراء على هذه الاستضافة. اللغة العربية لغة القرآن ووعاء الخطاب الرباني والآلة اللسنية المختارة لمخاطبة العالمين، إضافة إلى أنها لغة العلم والتقدم لزمن طويل قادت بها الأمة الإسلامية العالم وقدمت بها العلم والمعرفة، حيث ارتقت بمجتمع الصحراء إلى العالمية والريادة الحضارية. وقد مكنها من ذلك قدرتها الانفتاحية التي ربطت العربية بالاستعمال وليس بالعرق والجنس الذي يبنى عادة على الانغلاق:”ليست العربية من أحدكم بأبيه ولا بأمِّه، وإنما العربية لسان، فمَن تكلم العربية، فهو عربي”. وهو ما مكنها من استيعاب كل العلوم واستعمالها من طرف الشعوب الإسلامية الداخلة في كنف الدولة الجديدة والتي نبغ بعض أبنائها في علوم العربية كسيبويه وابن جني وغيرهما، كما مكنتها سعتها أن اعتمدت الكثير من الشعوب الحرف العربي لكتابة لغاتهم كالفارسية والأوردية.
ومن الناحية اللسنية فالعربية كذلك هي أقدم اللغات الحية على وجه الأرض ولسان التواصل بين كثير من الشعوب. وقد مكن الارتباط التلازمي بين العربية والقرآن الكريم من جعلها تحظى بجملة من المميزات التي تصل في تصور الباحثين القدامى إلى جعلها المدخل الطبيعي للتدين الصحيح باعتبارها لغة القرآن ولغة العبادة الإسلامية ولغة الثقافة الإسلامية وهي اللسان المشترك بين المسلمين جميعا. قال الإمام الشافعي في الرسالة: (فعلى كل مسلم أن يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده، حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ويتلو به كتاب الله، وينطق بالذكر فيما افترض عليه من التكبير، وأمر به من التسبيح والتشهد)13.
ويروى ابن منظور حديثا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه : “أحبوا العرب لثلاث: لأني عربي، والقرآن عربي، وكلام أهل الجنة عربي”. ونقل السيوطي قولا مطولا للفارابي يحمل كل صفات التقديس للغة الضاد. فقد عدت العربية الجسر الحقيقي للشرع ومعرفة الدين، وبدونها لا يمكننا الوصول إلى كنه العقيدة الإسلامية. ولذا نجد الإقبال عليها كبيرا في المجتمعات الإسلامية التي تستعمل في تداولها اليومي لغات أخرى (اُنظر الإقبال الحالي على تعلمها في الغرب وشرق آسيا). لذا كان الدفاع عنها مقدمة رئيسية للذود عن قدسية لغته وتميزها عن باقي اللغات الطبيعية.
> هل يمكنكم أن تبرزوا لنا قيمة الجهود التي بذلها المسلمون في خدمة اللغة العربية ونوعها؟
>> تختزن كتب التاريخ جهود علماء المسلمين في خدمة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن ولغة مقدرة في التواصل البيني. ففي سبيل حماية اللسان الذي نزل به القرآن ونطقت به السنة وضع القدامى منظومة معيارية من القواعد لمحاربة اللحن وضبط التشكيل وكشف أسرار اللسان العربي وكان في مقدمة علوم اللغة العربية علم النحو وعلم الصرف ومعاجم متن اللغة وشرح معانيها، وكشفوا عن علم فقه اللغة وعلم البلاغة، وعلم الأصوات، وعلم مخارج الحروف إلى غير ذلك خدمة للغة العربية وللعلوم الإسلامية وخدمة للفكر العربي وللتراث العربي والإسلامي. كما تم إثراء اللغة العربية والتراث العربي والإسلامي بعدة وسائل في مقدمتها الترجمة والتعريب والنقل.
> لكن كيف تردت اللغة العربية إلى هذا المستوى؟ ترى ما هي العوامل التي أدت إلى تراجع اللغة العربية في التوظيف اليومي والعلمي للمسلمين؟ وهل هذه العوامل داخلية أم خارجية؟
>> لا أحبذ ربط المآسي التي تعيشها الأمة بنظرية المؤامرة ، لكن واقع الحال يلزم بالبحث في التحالفات السياسية والتاريخية التي رغبت في القضاء على العربية باعتبارها أولا وآخرا لغة دين وعقيدة. ولعل هذا التلازم هو الذي جعلها محط سهام المواجهة والحرب. فمنذ مدة طويلة ودعاة الحداثة والتغريب يربطون العربية بالتقليد والجمود ويعملون على مواجهتها تارة باللهجات والتدريج وتارة بحصرها في دائرة المسجد دون الخروج إلى عالم العلوم والتقنيات. وقد وجدت الفرنكفونية في هذا الإطار مجالا خصبا للهجوم على قيم العربية المختلفة حتى غدت الفرنسية عنوان الثقافة الحديثة والانفتاح على العالم الحر والديمقراطي. لكن في نفس الآن ينبغي الإشارة إلى الوهن الذي يعتمل في الذات العربية من خلال عدم مسايرتها للتطورات الحضارية والتقنية وغيابها عن التداول في الشأن العام إضافة إلى غياب الترجمة والتعريب والضعف المعجمي والاصطلاحي وتعثر جهود المعجميين العرب وعدم التنسيق بين الباحثين في اللغويات كل هذه العوامل دفعت إلى تغييب لغة الضاد وتراجعها عن الريادة التاريخية.
> بالنظر إلى هذه الأسباب المتداخلة بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي، وبين ما هو داخلي وما هو خارجي ما هو تقييمكم لنوع التحديات التي تواجهها اللغة العربية اليوم وحجمها؟
>> بالطبع فالتحديات المطروحة على العربية اليوم كثيرة ومتعددة. منها ما هو متعلق بمالكي القرار السياسي والاجتماعي الذين يفترض فيهم الوعي بالقيمة الحضارية والاستراتيجية للغة العربية التي أمنت عمق الانتماء لشعوب الأمة، وهناك ما يرتبط بالمجتمع المدني الذي ينبغي أن يناضل من أجل إعادة الاهتمام بلغة الضاد وتصديرها في الاستعمال الإداري والاقتصادي، وهناك ما يرتبط باللغويين والمشتغلين باللسانيات الذين ينبغي أن يشتغلوا بشكل أكثر منهجية وتنسيقا وبرؤية واضحة لأولويات المرحلة. إذن فالتحديات كثيرة ومتعددة لكن الأكيد أن كل الحروب على العربية لا يقصد بها الآلية التواصلية بل ما تحيل عليه من منظومة قيمية وحضارية وما تختزنه من أبعاد عقدية ودينية. فالحرب على العربية حرب على عقيدة ووجود حضاري.
> بعد هذا التشخيص لهذا الوضع سياقا وأسبابا وتحديات ما الذي فعله مسلمو العصر للخروج من نفق انحسار لغتهم وتهديدها بالفناء؟
>> لا ينبغي أن نتنكر لمجهودات العديد من الجهات في النهوض بالعربية وعيا منه بجوهريتها في بناء شخصية الإنسان العربي والمسلم. فقد قادت العديد من المعاهد والمراكز البحثية حركة حثيثة للترجمة والتعريب وأنتجت العديد من المعاجم الاصطلاحية والتقنية، وحاولت منظمات كثيرة تقديم تصورات ومشاريع للنهوض بالعربية في ميادين الثقافة والإعلام والتواصل الإداري. وهناك جملة من الإبداعات التي تحاول تقديم أوراق علمية عن قيمة العربية وقدراتها الذاتية والموضوعية. كما لا يمكن إنكار ما تقوم به بعض الجمعيات المدنية في التعريف بقيمة العربية والاحتفاء بها والتنبيه على الحيف الذي أصابها ودعوة أصحاب الشأن للنهوض بها.
> ما هو تقييمكم لهذه الجهود؟
>> بكل صراحة أعتقد أن هذه الجهود غير فاعلة لسببين: أولا غياب التنسيق بين الأطراف الأكاديمية والمدنية المختلفة، وثانيا غياب الإرادة السياسية لدى أصحاب القرار لجعل اللغة العربية لغة رسمية في التداول العام وليس في النص الدستوري فحسب. وكما نقول دوما فإن السلطة تتعامل مع المسألة اللغوية بكثير من الضبابية ومنطق التوازن الاجتماعي مما يغيب الإرادة الحقيقية للحفاظ على ثوابت الأمة.
> أخيرا كيف تنظرون لمستقبل اللغة العربية في ظل العولمة والعصر الرقمي من جهة ومن جهة ثانية في ظل تحولات المشهد العالمي ورياح الربيع العربي؟
>> أعتقد أن الربيع العربي قدم إجابات جديدة عن السؤال اللغوي. فقد أعاد الانتماء العربي إلى صلب وجود إنسان المنطقة. فبعد عقود توالت على الأمة مشاريع التفتيت والتجزئة أتت أحداث الساحات والحراك الشبابي ليثبت الوحدة الوجدانية والشعورية بين أبناء الأمة، إضافة إلى أن قادة التغيير العربي قد عبروا في مرات عديدة عن كون العربية هي محور التغيير الديمقراطي الناشئ وأن كل تغيير لا يحل اللسان العربي محور الاهتمام فسيكرر نماذج الاستبداد والتجزئة. فمع نهاية شرعية الدولة القطرية وصعود القطب الهوياتي متصدرا للحكم بدأت الآمال تنتعش في النهوض بالعربية خاصة بعد تصريحات عدد من المسؤولين الجدد حول مستقبل الأمة والمنطقة واللغة. شكرا للأستاذ الكريم الدكتور فؤاد بوعلي على تفضله بهذا الحوار وإلى لقاء آخر إن شاء الله تعالى.
أجرى الحوار : الطيب الوزاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>