سندخل اليوم بحول الله عز وجل إلى منزلة جديدة من منازل الإيمان، منزلة لابد منها للسالك إلى الله عز وجل إذا كان قد سلك عبر المراتب التي ذكرنا مما فصل العلماء قبل، منطلقا من منزلة التوبة وصولا إلى منزلة الزهد وذلك موضوع كلامنا بحول الله،.
إن المسلم الذي يريد أن يسير إلى ربه عابداً لا يُمكِنُه أن يستمر في سيره إذا كان مُثقلا بالأحمال، وتعلمون أن أخف السير هو سير المتخَفِّفِ من الأثقال من بني آدم وغير بني آدم حتى من دواب العصر من المراكب الأرضية والهوائية، فكلما أثقَلْتَ على سيارتك الأحمال كلما أبطأَتْ سرعتُها وكذلك سائر المراكب، وهذه سنة من سنن الله في الناس وفي الكون، فالسائر إذن الذي يرجو أن يصل مبكرا و حقيقة ينبغي أن يكون متخففا غير مثقل، والتخفف المقصود هاهنا تخفف من الكسب الكثير، وذلك الزهد، وسنحاول بحول الله بيان الوجهة الشرعية لهذه المنزلة،
مـعنـى الــزهــد
كثير من الناس يظنون الزهد أن تَلْبَسَ المرقعات، وأن تنقطع عن أكل اللحم و الطيبات من الرزق، وما ذلك بزهد، فمن فعل ذلك وقصده فقد خالف أمرَ القرآن {كلوا من طيبات ما رزقناكم} والأمر في القرآن إما أن يفيد الوجوب أو الندب أو الإباحة، وسنبين بحول الله أن مِثل هذه الأوامر أصلها فعلا الإباحة ولكن قد يَؤُولُ أمرها إلى الوجوب في بعض الأحيان، وإن فعل ذلك خالف سنة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم
، لقد كان يحب لحم الكتف كما صح عنه ويستعذب له الماء، ويحب الثريد، إلى غير ذلك مما ذُكِر في كتب الشمائل وفي الصحيحين أيضاً، فما الزهد إذن إذا لم يكن أن تتقلل من الطيبات من الرزق؟ لابد من بيان أن أفعال الإنسان تحكمها أحكام شرعية خمسة وهذا أمر مُجمع عليه بين العلماء؛ الواجب والمندوب والمكروه والحرام، ووسط ذلك كله “المباح”،
تـرك الحـرام ليـس زهـداً
وأُجْمِعَ على أن ترك الحرام ليس زهداً، فلا يمكن أبدا أن يقال: “فلان يزهد في شرب الخمر” والصواب، يجب أن يترك شُربَ الخمر، ليس زهداً وتفضلا منه، وإنما وجوبا، فلا يسمى تارك الحرام زاهدا، كما أن تارك الزنا وتارك شرب الخمر وتارك الرِّبَا وتارك كل المحرَّمَات نصاً وقياسا لا يسمى زاهدا، ولا يسمى أيضا تارك المكروه زاهداً، لأن المكروهَ نُهي عنه، والمكروه لا يكون مكروها إلا إذا نهى الشارعُ عنه، صحيح أن النهي عن المكروه ليس نهي حتم ولكنه نهي على كل حال، فمن استجاب للنهي فإنما ذلك من باب الطاعة المطلوبة، فأن تترك المكروه أمر مطلوب، لكن ليس طلب جزم، وليس معنى ذلك أن عليك أن تقصد إلى المكروهات، فمن قصد إلى المكروهات قصدا فقد خالف قصد الشارع إذن، لأن الله سماه مكروها وإنما الفرق بين المكروه والحرام أنَّكَ إن وقعت في المكروه قيل لا حرج، يعني ليس فيه عقوبة، ولكنه نَهْيٌ مع ذلك، ولذلك قالوا يُلام فاعله، ولو داوم الإنسان على المكروه لصار إلى الحرام حتما وهذا معروف، إذن لا زُهْدَ في الحرام ولا زهد في المكروه وإنما هو امتثال، الاستجابة لترك الحرام والاستجابة لترك المكروه تسمى امتثالا لأمر الشارع، وهو من باب قوله سمعنا وأطعنا، أما الواجب فلا يمكن أبدا -لا بمنطق الشرع ولا بمنطق العقل- أن يُتَصور فيه زُهْد، من زهد في الواجب فقد خَرِبَ دينه إذن، ولا يمكن أن يتصور ذلك في المندوب، كيف يزهد الإنسان في المندوب؟ ! والمندوب مطلوب فعله،
مـــا اسـتوى طـرفَــاه فـــلا يُـؤجــر فـاعـلـه ولا يُــوزر
بقي المباح، إذن لا زهد في المطلوبات ولا زهد في المنهيات، بقيت درجة الصِّفر المباح، الذي فعله كتركه، هاهنا كلام، قال العلماء في تعريف المكروه: “إنه ما استوى طرفَاهفلا يُؤجر فاعله ولا يُوزر”، يعني لا إثم ولا أجر في فعله، وأيضا لا أجر ولا وزر في تركه، ولو حصل أن الأَجْرَ في فعله لما بقي مباحاً لأن المباح ما استوى طرفاه، فكيف يكون فيه الأجر ونقول ما استوى طرفاه؟، فأين هذا الزهد إذن؟ قال العلماء إن المباح على ضربين، وهاهنا فعلا فصَّلَ علماء الأمة ممن تذوقوا نصوصَ القرآن ونصوص السنة النبوية بصدق وكشفوا عن مقاصدها بتوفيق من الله عز وجل فوجدوا – بالاستقراء والشواهد أيضا- أن المباحَ نوعان: مباحٌ صُرِّح بإباحته؛ {كلوا من طيبات ما رزقناكم} كإباحة الزواج “تناكحوا تناسلوا” وهذا أمر يفيد الإباحة، وهكذا سائر المباحات التي صُرح فيها بالإباحة تصريحا، فكل مباح إذا صرح به فهو مباح مُخيَّر فيه، لك أن تفعله ولك أن تتركه، ولا يخيرك الله عز وجل إلا بين خيرين، لا يمكن أن يخيرك الله بين خير وشر، يخيرك بين خير وخير، أن تشرب كأسا من الماء الآن أو لا تشربه سواء، هذا نوع، ونوع من المباحات لم يُصرَّح بإباحته، لا تجد له ذِكراً لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن سُكِتَ عنه، وفي الحديث “وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها” سكوت الشارع عن أشياء لا يمكن أن يُفهم منه التحريم لأن الله لو أراد أن يحرم شيئاً حرَّمه نصّاً، ولا الكراهة لأن الكراهة أيضا تؤخذ بالنص أو بالقياس، فسكوت الشارع عن بعض الأشياء يعني أنها مباحة لكن ليست من درجة المباح الآخَر الذي صُرِّحَ بإباحته تصريحا ((وسكت عن أشياء رحمة بكم فلا تسألوا عنها ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم أنبياءهم)) وفي الحديث أيضا “أعظم الناس جُرما يوم القيامة رجل سأل عن مسألة فحُرِّمَت بسبب مسألته” وهذه النصوص تفيد أن المسكوت عنه في الشريعة ليس من نوع المباح المُصرَّح بإباحته، لأن هذا المُصَرَّح بإباحته هو خير، فَعَلتَه أو لم تفعله، أما هذا المسكوت عنه ففعله ليس كتركه بل تركه أولى، ولو كان في فعله خير لصَرَّحَ الشارع بإباحته ونبَّه إلى أنه نوع من المباح الموجود إن شئتم فادخلوا فيه، ولكن سكت عنه، ولو نطق لحرَّمه أو كَرِهَه، وإنما سكت لأن تحريمه قد لا يطيقه الناس، كما في الحديث، “رحمة بكم”، لأنه لو تكلم فيه لحرمه أو لنهى عنه نهي تحريم أو نهي كراهَة على الأقل، وبالمثال يتضح المقال، لنمثل لهذين الأمرين من المباح: المباح الذي يقال فيه مخير فيه لا زُهْدَ فيه، فلا يجوز أن تزهد في المباح المصرح بإباحته، لا يليق بالمؤمن أن يقول أزهد في هذه المباحات، كيف تزهد فيها ورسول الله صلى الله عليه وسلم
لم يزهد فيها؟، أأنت خير من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تزهد في تلك المباحات؟ إذن ما فَعَل عليه الصلاة والسلام من الدخول في ذلك النوع من المباح إلا لتقتدي به أمَّتُه عليه الصلاة والسلام،
الـمـبـاح مـا كـان فـي خـدمة الضـروريـات الـخـمس
وأنواع المباحات المصرَّح بإباحتها يمكن إجمالها في كلمة أو كلمات هي ما يَخْدُم الضروريات الخمس معروف أن شريعة الإسلام جاءت لبناء خمس ضروريات، الدين، النفس، العقل، النسل، المال، هذه خمسة أمور كل مباح يخدمها فهو مباحٌ مصرَّح بإباحته، مطلوب أن يقتنيه الإنسان على أنه مباح، الطعام والشراب مباح، اللباس مباح، وأكل الطيبات من الرزق جميعا مباح، هذه أمور لو أن الإنسان أضْرَب عنها إضرابا، مثلا إذا امتنع عن الطعام، سيموت فيكون منتحرا، إذن ترك المباح أدى إلى إهلاك النفس، والنفس ضرورة من الضروريات، {لا تقتلوا أنفسكم} وإذا هلَكَت النفس هَلَكَ الدين؛ لأن الدين إنما يقُوم بالنفس، كيف يكون الدين في الأرض إذا غاب الإنسان؟، إذن لابد من إحياء النفس، فأن تأكل وتشرب أمر مباح، ولكن يجب أن تعرف بأن تركك لذلك المباح إن صار لك عادة فسيؤدي إلى خَرم هذه الضروريات الخمس، إلى نقض أصول الشريعة، فيكون إذن هذا الفعل المباح مطلوبا، ولا يجوز أن يقول شخص إني أزهد في الطعام والشراب، بل إذا وسَّع الله عليك في الرزق فكل طبعا بغير إسراف ولا تبذير لتتقوى على طاعة الله، ولتُظهِر آثار نعمة ربك عليك، ولتشكر الله عز وجل على ما أنعم عليك، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم
إذا وَجدَ أكلَ من اللحم لحم الكتف، وأكل الثريد، وإذا لم يجد لا تشتَعِل النارُ في بيته الشهر والشهرين، كما قالت عائشة رضي الله عنها في الحديث الصحيح، ويعيشون -أي آل البيت- على الأسودين الماء والذَّقَل شهرا وشهرين لا يجدون ما يأكلون، يشربون الماء ويأكلون التمر الرديء، لأنه لم يجد، ولكن عندما يجد عليه الصلاة والسلام يأكل ما أنعم الله عليه به، فإذن مثل هذه المباحات لا زهد فيها، خاصة إن كان من المُوسرين الموَسَّع عليهم، فزهده حينئذ يتحول إلى بُخل، تجد الإنسان وقد وسع عليه الله عز وجل ونَعَّمَه وأكرمه، ويُضْرِبُ مثلا على الفاكهة ولا يدخلها إلى بيته إطلاقا، هذه من طيبات الرزق، وهذا الرجل يُدخِل على أهله الحَرَج، ويجعله لا يشكر نعمة الله حقا فينبغي أن يتناول ذلك الطيب من الرزق ولو من حين لآخر، حتى يكون مُتَناوِلاً للمباح وقد وسع الله عليه في ذلك، فما جعل اللَّهُ المباحَ مباحاً إلا لِتَدْخُل فيه وتتناولَه، ولو كان الخير في تركه لحرَّمه أو على الأقل كرِهَه، ما دام هذا المباح يخدم النفس ويخدم الدين.
فريد الأنصاري رحمه الله تعالى
——-
(ü) منزلة الزهد من حلقات منازل الإيمان التي ألقيت بمسجد الجامع الأعظم بمكناس وهي مادة مسجلة على شريط سمعي .
أعدها للنشر :
عبد الحميد الرازي
بينج باك: مجمع حلقات الإمام الشاطبي بمسجد العليان - سلسلة حلقات نهاية العالم - Google Search