مع سنة رسول الله – حرص النبي على حماية الأسرة الـمؤمنة


عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم

: ((لا يَـفْـرِكُ مُـؤْمِـنٌ مُـؤْمِـنَـة إن كَـرِهَ مِـنْهَـا خُـلُـقاً رَضِيَ منها آخَـرَ))، أو قال غيرَه(1).

مقدمة : أهمية الأسرة في حياة الإنسان :

إن الأسرة هي المحضن الذي نشأ فيه الإنسان أيام ضعفه الأول وتلقى فيه العناية والرعاية والمحبة والدفء… ثم  هي الإطار الذي يعيش فيه عندما يستقل عن والديه فيلتقي بعشير يختاره ليجد فيه السكينة والمودة والرحمة ويتكامل معه وينجب معه أبناء تتجدد بهم حياتهم… وفيه يورث لأبنائه ما تلقاه من والديه، ومن غيرهم، من آداب وأخلاق وقيم وعلم وعادات وتقاليد… فالأسرة -مع مراعاة الإسم- تمثل جانباً كبيراً من إنسانية الانسان.

ولقد حرص الإسلام  حرصاً شديداً على هذا الصرح، فشجع على إنشائه وأمر بالمحافظة عليه ووعد المطيع بالثواب كما توعّـد المخالف بالعقاب.

ومن دلائل حرص  الإسلام على الأسرة تنبيهه إلى بعض الأخطاء التي من شأنها أن تفكك هذه المؤسسة.

فالزوجان بشران لا يخلوان من عيوب ومن أكبر العيوب أن يتصور الزوج زوجة بلا عيوب. وهذا ما نبّـه إليه الحديث وعرض العلاج.

فمن حقه أن يكره الخلق السيئ ولكن ليس من حقه أن يكره زوجته إذا اتصفت به

فلا يخلط بين زوجته وخلق سيئ فيها

ولا يختصرها في خلق سيئ فيها.

في هذا الحديث فوائد كثيرة منها:

1- أن المؤمنة لا تتزوج إلا المؤمن لأنه هو الذي  يعنيه هذا الخطاب وهو الذي يقدره قدره. ولأن المؤمنة لا تستفيد من هذه الوصية إلا إذا كان زوجها مؤمناً، ولذلك جاء في الحديث الشريف : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير))(2). فإذا كانت المؤمنة في عصمة المؤمن فإنها تكون موضوع وصية مسموعة.

2- المقصود بالمؤمن والمؤمنة في هذا الحديث الزوج وزوجته. والتعبير عنهما بصفة الإيمان تعبير بأشرف الصفات وتذكير لهما بنعمة الإيمان التي يتمتعان بها في أنفسهما لأنهما مؤمنان وفي عشيرهما،  وبذلك يعيشان بالإيمان وفي ظل الإيمان.

ويذكرهم  بصفة يستحق أصحابها -مهما بعدوا- كل تكريم، فكيف إذا كان يجمعهما الميثاق الغليظ؟(3).

ثم إن المؤمن يحب الإيمان لقوله تعالى : {ولكن الله حبب إليكم الايمان وزينه في قلوبكم وكره إليكم الكفر والفسوق والعصيان أولئك هم الراشدون فضلا من الله ونعمة والله عليم حكيم}(الحجرات : 8).

فحب المؤمن للإيمان يترجم ما يقتضيه في نفسه من فعل أو ترك إلى واقع،  وفي غيره إلى حب كل من يتصف بصفة الإيمان.

3- ((لا يفرك مؤمن مؤمنة)) بمعنى “لا يبغضها”. والنهي عن التباغض عام بين جميع المؤمنين لقوله صلى الله عليه وسلم:” لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخواناً و لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث”(4).

وفي هذا الحديث إشارة إلى المراحل الطبيعية التي تعقب التباغض وهي التحاسد ثم التدابر ثم التقاطع… والتقاطع بين الزوجين يعني الطلاق.أي أن النهي عن أن يبغض الزوج زوجته هو في الحقيقة نهي عن طلاقها باعتبار أنه يؤول إليه، فهو من باب النهي عن النتيجة بالنهي عما يؤدي إليها.

والجملة في صيغة الخبر، أي نفي وجود مؤمن يفرك زوجته المؤمنة،  والخبر يحتمل الصدق والكذب، وصاحب الكلام هو الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، والواقع أن كثيراً من المؤمنين يفركون زوجاتهم المؤمنات،  فلم يبق بُـدّ، تنزيهاً لخبر الحبيب صلى الله عليه وسلم

عن الكذب، مِـنْ حَـمْـل الكلام على كونه إنشاء يفيد النهي، والمعنى يحرم على المؤمن أن يبغض زوجته المؤمنة.

4- تحذير للمؤمن أن يخرج من دائرة الإيمان بسبب كراهيته لزوجته المؤمنة… لأن ورود النهي في صيغة الخبر يسمح بصحة المفهوم المخالف، ولأنه إذا كان المؤمن لا يفرك المؤمنة فإن الذي يفركها ليس مؤمناً. ولأن صفة الإيمان في الزوجة، بل وفي غيرها، تمنع من بغضها وكراهيتها وتجلب محبتها وتلك سنة أبينا إبراهيم صلى الله عليه وسلم

والذين معه، قال تعالى : {قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنّـا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبداً حتى تومنوا بالله وحده…}(الممتحنة : 4).

5- تنبيه للمؤمنة بأن زوجها قد يكرهها إذا لم تأخذ ما يكفي من الاحتياط لإبراز محاسنها وإخفاء مساوئها وإظهار ما يحب زوجها وإخفاء ما يبغض (التحبب).

ومن هنا تظهر أهمية وصايا أمامة بنت الحارث عندما خطب  عمرو بن حُـجر ملك كندة ابنتها أم إياس بنت عوف بن محلِّم الشيباني فقالت لها: أي بنية : إن الوصية لو تركت لفضل أدب لتَـركْـتُ ذلك لكِ ولكنها تذكرة للغافل ومعونة للعاقل.

ولو أن امرأة استغنت عن الزواج لغنى أبويها وشدة حاجتهما إليها، كنْـتِ أغنى الناس عنه ولكن النساء للرجال خُـلِـقْـنَ ولهُـنَّ خُـلِـق الرجال.

أي بنية : إنك فارقت الجوّ الذي منه خرجت، وخلّـفْـت العش الذي فيه درجت، إلى وكْـر لم تعرفيه، وقرين لم تألفيه، فأصبح بملكه عليك رقيباً ومليكاً فكوني له سماء يكن لك أرضاً وكوني له أمة يكن لك عبداً وشيكاً. واحفظي له خصالاً عشراً يكن لك ذخراً.

أما الأولى والثانية : فالخشوع له بالقناعة وحسن السمع له والطاعة.

وأما الثالثة والرابعة: فالتفقد لمواضع عينه وأنفه، فلا تقع عينه منك على قبيح ولا يشم منك إلا أطيب ريح.  وأما الخامسة والسادسة:  فالتفقد لوقت منامه وطعامه، فإن تواتر الجوع ملهبة، وتنغيص النوم مغضبة. وأما السابعة والثامنة: فالاحتراس بماله والإرعاء على حشمه وعياله، وملاك الأمر في المال حسن التقدير وفي العيال حسن التدبير.

وأما التاسعة والعاشرة: فلا تعصين له أمراً، ولا تفشين له سراً، فإنك إن خالفت أمره أوغرت صدره وإن أفشيت سره لم تأمني غدره.

ثم إياك والفرح بين يديه إن كان مهتماً، والكآبة بين يديه إن كان فرحاً(5)

وأوصى زوج زوجته فقال:

خذي العفو مني تستــديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

ولا تنقـــرينــي نقــرك الدف مــرة

فإنك لا تدريـــن كــــــيف المغيّـــب

ولا تكثري الشكوى فتذهب بالهوى

ويأبـــاك قلــبي والقلـــوب تقـــلــب

فإني رأيت الحب في القلب والأذى

إذا اجتمعا لم يلـبــث الحــب يذهــب.

6- النهي عن بغض الزوج المؤمن لزوجته المؤمنة وفيه أمر بمحبتها:

وربما يقول القائل بأن الحب مسألة عاطفية والعاطفة لا تنضبط فكيف يفعل الإنسان إذا كان يبغض زوجته؟

والجواب أن الحب والبغض طاقتان قابلتان للتوجيه، وإلا كيف استطاع أعداء الأمة أن يجعلوا شبابها  مولعاً بحب التافهين وببغض كل ما به عز الأمة وتحقيق ذاتها؟

ولو كان الحب والبغض أمراً عاطفياً لا سلطان للإنسان عليه، ما كلًّـفَـنا الشرع بحب الله تعالى وحب رسوله صلى الله عليه وسلم

وحب الصالحين لأنه سيكون وقتئذ تكليفاً بما يفوق الطاقة  وهو محال. وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وولده ووالده ومن نفسه التي بين جنبيه..)) فجعل أحبيته صلى الله عليه وسلم

غاية على المؤمن أن يعمل على إدراكها.  وفي قوله صلى الله عليه وسلم: ((أحَـبّ العبادِ إلى الله من حبب الله إلى العباد وحبب العباد إلى الله)) ما يشير إلى أن المحبة والتحبيب أمران مقدور عليهما.

فمحبة الله تعالى تحصل بالنظر في أسمائه الحسنى وفي صفاته العلى وفي واسع رحمته وفضله ومغفرته وفي آلائه وإحسانه…ولا  يزال العبد يلاحظ  هذهالمعاني ويدل العباد عليها حتى  تقع محبة  الله تعالى  في قلبه ويقع منه  تحبيبه لعباده.

ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم

تحصل بمعرفته ومعرفة أخلاقه وشمائله ورحمته ورأفته وحرصه على أمته… وكلما  انتبه المؤمن إلى هذه المعاني كلما ازداد محبة للحبيب صلى الله عليه وسلم…

أما الزوجة فإن التركيز على مواطن الجمال فيها وجميل الخصال يجعل زوجها يحبها، بل يحافظ على محبته لها.

ومعلوم أن محبة الزوج لزوجته ورضاه وكذا محبتها له ورضاها كانت هي المنطلق، عنوان ذلك بالنسبة للزوج خطبته والمهر الذي قدمه لها نِـحْـلة خالصة كعربون على رغبته الصادقة في الاقتران بها، وإلا فما قيمة خاتم من حديد يلتمسه لها؟(6).

وعنوان هذه المحبة والرضى بالنسبة للزوجة  قبولها لهذا الإيجاب بمحض إرادتها ودون إكراه.

هذا ما يظهر منهما ويُـبنى عليه، أما الذي يُـطلب منهما تحقيقه على مستوى القلوب فهو نية التأبيد(7). وكل ذلك يحصل، في الغالب، أو ينبغي أن يحصل، بعد الاستشارة والاستخارة. فإذا أشار عليه أولوا النهى بالمضي، فعزم وتوكل على الله تعالى فيسر له الزواج دل على أن له فيه خيراً  في دينه ومعاشه وعاقبة أمره، لكن لا يعني أنه تزوج امرأة كاملة فلقد علم أنه لم يكمل من النساء إلا أربعة(8). وعشرته لزوجته واقترابه منها ومخالطته لها، يتيح له الاطلاع منها على الكثير من الأمور التي لا تكون موضع الرضى(9). وهذا أمر طبيعي ولا ينبغي أن يفاجئه ولا أن يحمله على كراهية زوجته بسببه.

7- ولكي يتخلص من هذه النتيجة -كراهية زوجته- ومما يمكن أن يتفرع عنها، عليه الالتفات إلى ما تتمتع به زوجته  من أخلاق مرضية  والتركيز على الجوانب الإيجابية فيها،  والموازنة بين الأخلاق المرضية والأخلاق غير المرضية، والتدرب على ذلك. فليس كل إنسان يستطيع أن يلاحظ مواضع الجمال بينما الكل يستطيع أن يلاحظ  مواضع الخلل والنقص وهو ما وجّـه إليه الحديث في قول الحبيب صلى الله عليه وسلم

: ((إن كره منها خلقاً رضي منها آخر)).

8- وما يكرهه الزوج في زوجته من أخلاق ليست أخلاق الشر إنما هي  أخلاق القوة والضعف، لأنها مؤمنة ولأن الخير فيها متفرع عن الإيمان لقوله صلى الله عليه وسلم

: ((المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير…))(10).

9- إن هذا الحديث دليل آخر على أن الحبيب صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على أمته وعلى محبة الخير لكل فرد من أفرادها وعلى خوفه من وصول الشر إلى أي أحد منهم. فليس في كل زوجة  ما يكرهه زوجها،  ولكن مجرد احتمال وجود خلق غير مرضي يستحق هذا التنبيه. لأن كراهية الزوج لزوجته له آثار خطيرة عليه وعليها وعلى الأسرة، ففي الحديث توجيه للمؤمنين أن يأملوا الأفضل وأن يستعدوا للأسوأ.

وصلى الله على من قال فيه : {وإنك لتهدي إلى صراط مستقيموإن الذين لا يومنون  بالآخرة عن الصراط لناكبون} وسلم تسليماً كثيراً.

والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

د. لخضر بوعلي

——-

1- رواه مسلم في صحيحه كتاب الرضاع

2- رواه الترمذي وغيره.

3- الميثاق الغليظ هو ميثاق الزوجية لقوله تعالى : {وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً}(النساء : 21).

4- حديث متفق عليه من رواية أنس رضي الله عنه.

5- فقه السيرة ج 2 / ص 209  السيد سابق

6- الإشارة إلى قوله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة :” إلتمس ولو خاتما من حديد” أي مهراً لزوجتك.

7- أي ينوي كل من الزوجين أن يعيش مع زوجه إلى الأبد وهو شرط في صحة الزواج.

8- لقوله صلى الله عليه وسلم :” كمل من الرجال الكثير ولم يكمل من النساء إلا أربعة: مريم ابنة عمران وآسية بنت مزاحم وخديجة بنت خويلد وفاطمة الزهراء بنت محمد صلى الله عليه وسلم… وفي رواية عائشة بنت أبي بكر رضي الله عنه.

9- كونه كره منها خلقاً لا يعني بالضرورة أنه خلق مذموم شرعاً، فقد يكون موضع خلاف.

10- رواه مسلم في كتاب القدر وابن ماجة في المقدمة والإمام أحمد.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>