إشراقة – هكذا كان التنافس بين الفقراء والأغنياء


إن التوفيق للتنافس فيما عند الله، والسباق إلى الخيرات من الدرجات في الجنات من أهم ما يوجب الشكر على العبد.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن فقراء المهاجرين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : ذهب أهل الدثور(1) بالدرجات العلى، والنعيم المقيم، فقال : “وما ذاك”؟ فقالوا : يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق، ويعتقون ولا نعتق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ألا أعلمكم شيئا تدركون به من سبقكم، وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم”؟ قالوا : بلى يا رسول الله، قال : “تسبحون، وتحمدون وتكبرون، دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين مرة” فرجع فقراء المهاجرين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال بما فعلنا، ففعلوا مثله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ذلك فضل الله يوتيه من يشاء” متفق عليه. وهذا لفظ رواية مسلم.
للوصول إلى الدرجات العلى كانت تجتمع الهمة على المنافسة عند الأغنياء والفقراء، وبهذا عرفت أفضليتهم بأفضلية ما يطلبون، إذا لا يطلب أعلى الدرجات في الجنات إلا أصحاب القدر العلي، والطلب الجلي للدائم الباقي، والتجافي عن الزائل الفاني، فلم تكن شكواهم على قلة ما يتنعمون به من دنياهم، ولكن شكايتهم كانت على ما تهم من الإحسان والإطعام، والعتق لرقاب إخوانهم من أهل الإيمان، وهذه هي النفوس التي أدركت حقيقة ما ينبغي التنافس فيه وطلبه، وحقيقة ما ينبغي الزهد فيه وتركه.
قال ابن حجر: إن الفقراء في هذه القصة كانوا السبب في تعلم الأغنياء الذكر المذكور، فإذا استووا معهم في قوله امتاز الفقراء بأجر السبب مضافا إلى التمني، فلعل ذلك يقاوم التقرب بالمال.
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه الله القرآن، فهو يقوم به أناء(2) الليل وآناء النهار. ورجل أتاه الله مالا ينفقه أناء الليل وأناء النهار))(متفق عليه)
قال القرطبي رحمه الله تعالى : الحسد قد يكون مذموما، وغير مذموم فالمذموم أن تتمنى زوال نعمة الله عن أخيك المسلم.. وهذا النوع” هو الذي ذمه الله تعالى بقوله : {أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله}(النساء : 54)، أما غير المذموم أن يتمنى زوال النعمة عن الكافر وعمن يستعين بها على المعصية، وأما الغبطة : فهي أن تتمنى أن يكون لك من النعمة، مثل ما لغيرك، من غير أن تزول عنه وهذا يسمى منافسة ومنه : {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون}(المطففين : 26).
فكأنه قال : لا غبظة أعظم وأفضل من الغبطة في هذين الأمرين. وقال ابن حجر رحمه الله تعالى : “لا حسد” أي لا رخصة في الحسد إلا في خصلتين،.. أو أطلق الحسد مبالغة في الحث على تحصيل الخصلتين كأنه قيل : لو لم يحصلا إلا بالطريق المذموم كان ما فيهما من الفضل حاملا على الإقدام على تحصيلهما به فكيف والطريق المحمود يمكن تحصيلهما به.
وهو من جنس قوله تعالى: {فاستبقوا الخيرات} فإن حقيقة السبق أن يتقدم على غيره في المطلوب. ففي هذه الخصال كان أحدهم يحب أن يسبق غيره، وليس في متاع الحياة الأدنى. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا حسد إلا في اثنتين : رجل أتاه الله مالا، فسلطه على هلكته في الحق، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها))(متفق عليه).
ذ. عبد الحميد صدوق
——–
1- “الدثور” : الأموال الكثيرة، والله أعلم.
2- “آناء” الساعات.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>