أوراق شاهدة – فدائيو المحبة ومهمة إنقاذ أرواح الشعوب


“المسيو” مسافر
العالم بكل مكوناته الجغرافية والإيديولوجية يحيا تعبا روحيا هائلا تنعكس تجلياته في التناسل الرهيب لقيم أنانية متوحشة تتنزل وسط جلبة إعلامية متواطئة لتجعل منها مجرد أحداث عادية تصنف ضمن الحقوق الفردية للمواطنين، في انسلاخ تام عن القيم الدينية الكفيلة بتقويم الإعوجاجات والانحرافات سواء بالنسبة للعالم الغربي الذي حسم خياراته في الاتجاه العلماني، أو العالم العربي الإسلامي الذي يأبى إلا أن يدخل جحر الضب أسوة بمستعبديه من الغربيين. وللتدليل على هذا الوضع المنفلت من “قمقم” القيم، (كما يرونها) أستحضر على مستوى بلادنا البرنامج الحواري الذي أدرجته إحدى قنواتنا التلفزية على هامش ذكرى “عيد” المرأة، ويتعلق بظاهرة الأمهات العازبات، حيث استعان معدو البرنامج بشهادات في السياق من ضمنها شهادة لعالم دين مغربي.
وكان اللافت في هذه الشهادة طريقة تصوير كاميرا القناة لملامح العالم الذي تمت استشارته بطريقة جانبت الحيادية على مستوى الشكل، حيث تم أخذ صورة مطولة لعيني السيد العالم فقط، وهوفي حالة انفعال، لأهمية بل خطورة موضوع الأمهات العازبات، حتى ليتساءل المتابع إن كان الغرض من التركيز على عيني العالم دون وجهه، هو شكل من أشكال دفع المشاهد إلى استشعار نفور آلي من رأي الدين في قضايا المجتمع، في حين كان المنطق يفرض أن تفرد لرأي الدين وبكل التوقير الواجب، مساحة أكبر يحضر فيها رأي العالم والمفكر الملتزم بالتصور الإسلامي كما تحضر المناضلة النسائية والعالم النفسي وغيرهم من المختصين في المجال، باعتبار أن الخلل لا يكمن في ضعف البنية التحتية المعدة لاستقبال هذه الحالات ولا النقص في البنية النظرية التحليلية لهذه الآفة، وإنما الإشكال في هذه القلاع الفولاذية المشيدة في وجه النبض الديني للمواطنين والتي تجعل الخواء المتفاقم في الأنفس يفضي إلى تبني السلوكات المنحرفة في صورها الأكثر راديكالية، وما التناسل المفجع لظاهرة الأمهات العازبات إلا صورة لهذا الضمور الديني الذي يدفع برجال المسلمين يوما عن يوم إلى التنكر لواجباتهم كآباء وإخوة وأزواج تقع عليهم مسؤولية الحفاظ على المرأة كأم وأخت وزوجة كريمة عزيزة.
وقد شاهدنا عبر التلفاز بعيون دامعة وقلوب كسيرة حزينة ما آل إليه مصير الأم المغربية وهي في وحدتها بالملاجئ ودور العجزة تكابد الإقصاء والعزلة والأمراض الأشد فتكا، كما شاهدنا الزوجة المغربية المغامرة لجلب سلع الشمال، وكيف تدهس كرامتها قامات الرجال الجوف وهم يتدافعون بسلعهم لاجتياز حاجز الجمارك ويكلونها إلى السياج الحديدي بظهرها المقوس، تحت ثقل السلع ونهبا لإهانة جمارك الإسبان القساة.. أي تردي وأي انهيار لقيم تكريم المرأة حين تترك لمكابدة ضنك العيش وجها لوجه مع المغامرين والصعاليك؟؟.. والأكثر إيلاما حين يتقدم بها الزمن إلى الشيخوخة كما تابعنا في نفس القناة وهي تحمل الطوف البحري وتغطس به بردا وحرا في اللجج المالحة لاستخراج لقمة عيش باهضة التبعات، إذ يستحيل جسدها الأنثوي إلى كتلة ضخمة متغضنة بلا ملامح وأقرب منها إلى الذكورة المهيضة المتعبة.. ويتبادر إلى الذهن أمام جعجعة الاحتفال الأممي بحقوق المرأة : هل تحتاج كل هذه العينات من النساء المغتصبات الحياة والكرامة إلى لغة الحقوق والاستعراضات الشفوية الحقوقية الجوفاء أم تحتاج إلى رجة وزلزلة لأرواح ثلة من الرساليين لحشدهم لبعث قيم التقدير للمرأة، قيم الرفق بالقوارير وإكرامهن كما جاء في كتاب الله عز وجل ووصايا المبعوث بالحق للعالمين….
إن مما يبعث على الأسى هوحجم هذه القطيعة مع المشاعر الدينية للجماهير العربية عبر أكثر القنوات تعبيرا عن توجهات ومشاغل المواطنين وهي القناة الإعلامية في الوقت الذي يتم فيه التطبيل لتصور غربي مشوه أساء إلى المرأة الغربية من حيث أراد استنقاذها.. ونأبى نحن إلا أن نمتطي نفس سفينة التيتانيك الغربية لنصطدم بحائط السقوط ولسان حالنا يرد على الذين سوقوا لمفهوم “المدام مسافرة”، “المسيو مسافر”، بل خرج ولم يعد وتبعته المرأة، والضحية : هم الجيل الجديد لصنعة بلادنا من البشر، والله من وراء المفسدين محيط. في الحاجة إلى مهندسي الروح مرة أخرى نقف أمام عظمة الأستاذ فتح الله كولن بروح من الإكبار والإعجاب بل الإنبهار أمام تنزيله الوفي الدقة لإشارات كتاب الله عز وجل وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، حين يتعلق الأمر بتنظيم حياة العباد دنيويا وأخرويا. وهذا الانشداد القوي للمشروع الإسلامي في أصوله وفروعه ومعانيه العظيمة أثمر كما قلنا في حلقات سابقة امتدادا لمشروع كولن الدعوي والتربوي إلى الكثير من بقاع العالم. وما يبعث على التقصي الملفوف بالشوق لكتابات فتح الله كولن في هذا السياق هو جرعة الصدق والمحبة التي يترجم بها مشاعره نحو الدين فتأتي العبارات مشحونة بجذب مغناطيسي لا يقاوم، ويحيل صدقه وعمقه القارئ للتو على قوله تعالى : {واتقوا الله ويعلمكم الله}.
فتح الله كولن إذن رجل معلم “بفتح اللام” لأنه وضع نصب عينيه الصفات المثلى للسالكين إلى الله تعالى وعلى رأس هذه الصفات رضا الله عز وجل وتعليم الناس الخير. وما أحوجنا إلى أناس من هذه الطينة لحجز الناس عن هذا التردي إلى الهلاك، أناس يبذلون الرحمة والشفقة لأجل استنقاذ الناس من التطبيع مع المعصية، مع دعم قدراتهم ومناعتهم الدفينة للتصدي لوصفات الشيطان التخريبية للإنسان والحضارة. يقول فتح الله كولن في ذكر صفات أولئك الذين نذروا أرواحهم لخدمة الناس : ((لن تجد في خططهم وحساباتهم أنهم يعيرون أهمية لأمور يسعى طلاب الدنيا للحصول عليها كالأموال والأرباح والثروة والرفاهية هذه الأمور لا تشكل عندهم أية قيمة ولا يقبلون أن تشكل عندهم أي مقياس فهم قد نذروا أنفسهم لإرشاد الناس إلى الحق تعالى وتحبيبه إليهم لتحقيق الحصول على محبته تعالى، وربط حياتهم به لإحياء نفوس الأخرين…. ونظرا لكل هذا فلن تجد عند أمثال هؤلاء شعارات تفرق ولا تجمع وتشتت ولا توحد وتقود إلى النزاع من أمثال “هم” و”نحن” و”أنصارنا” و”أنصارهم” ولا توجد أي مشكلة ظاهرية أو خفية مع أحد، ليس هذا فحسب بل تراهم في سعي دائم ليكونوا ذوي فائدة لكل من حولهم، ويبدون عناية فائقة لعدم إثارة أي مشاكل أو حساسيات في المجتمع الذي يعيشون فيه، وعندما يرون سلبيات في مجتمعهم فلا يتصرفون كمحاربين غلاظ بل كمرشدين رحماء يقومون بدعوة الأفراد إلى الأخلاق الفاضلة)).
إن هذه الصفات الربانية هي صفات المسار النوراني للأنبياء والرسل تشربوها وحيا تضمنته الكتب السماوية، وطافوا بمصابيحها بين الحيارى والضالين، وعلى امتداد فترات نبوتهم سعوا لاقتلاع نبتات الشيطان وغرس بذور الإيمان في القلوب بكل الرحمة والتفهم، فآمن بهم من آمن وكذب وعصى الأشقى، حتى إذا جاءت الفترة النبوية المحمدية، كان الزرع الرسالي قد استغلظ واستوى على سوقه فجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجا. وقد صاغ الأستاذ كولن في مقالات رائعة بمجلة حراء معالم هذا الدرب النبوي، وملامح الذين يتطوعون للانخراط في سلكه، وهم الذين تقع على عاتقهم مهمة إعادة الروح الإيمانية للناس، وعليهم أن يتذكروا أن حصاد جهدهم وإن كان هزيلا على المدى المنظور فثماره بفضل الله عز وجل ستؤتي أكلها ولو بعد حين. وفي السياق تطالعني تلك القصة المليئة بالحكم والتي تقول إن طفلا رأى جده يقرأ ويحفظ من كتاب الله عز وجل يوميا فأراد كما جده أن يحفظ القرآن، فلم يفلح، فأخبر جده بمحاولاته الفاشلة لحفظ كتاب الله عز وجل، فأخذ الجد سلة من قصب وسلمها لابنه وطلب منه أن يملأ الجرة بالماء، فركض الطفل إلى النهر وحاول ملء السلة لكنه كان يفقد الماء المتسرب من شقوق السلة في كل مرة، فعاد باكيا حزينا إلى جده فأجلسه إلى جانبه وسأله : ألم تكن السلة متسخة؟ قال الولد بلى. قال الجد: ألم تلاحظ أنها غدت نظيفة؟. قال الولد نعم هي كذلك، قال الجد: ألم تلاحظ أن السلة غدت ثقيلة؟ قال الولد نعم، قال الجد إنه الماء الذي أمسكته السلة، وكذلك القرآن لا يذهب أثره من روح وكيان الإنسان وإن كان يتفلت كما تفلت الماء من السلة. وهو الأثر الذي يبذل في سبيله الأستاذ كولن، فكره وجسده العليل، لتركيزه في قلوب الناس، ولينفخ في أعماقهم روح الجهد والعمل للدين. وسبحان الله ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم : ((من ليس في جوفه شيء من القرآن فهو كالبيت الخرب)).

ذة. فوزية حجبي

 

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>