ألم قلم - شبابنا بخير!


نعم هم بخير، بل أكاد أقول إنهم بألف خير، فمن يرى شبابنا -أو طوائف منهم- وهم كالتائهين في الطرقات والأزقة، والدروب، ومن يراهم وهم يتناولون ما يتناولونه ليذهب بمداركهم أو بإحساساتهم ساعة من الزمان نشوة ومتعة، ومن يراهم وهم أمام أبواب المؤسسات التعليمية وكأنهم ليسوا أمام مؤسسة تربوية، ومن يراهم يتلفظون بالعبارات الساقطة التي تجرح مشاعر السامعين، ومن يراهم هكذا أو هكذا… يقول على الدنيا السلام، أين المستقبل حينما يكون بُناتُه بِبَنيه وبناتِه بهذه الصفات والأخلاق، لكن مع ذلك أقول: هم بخير، والعيب فينا نحن الآباء والأمهات، نحن الموجهين والمربين، نحن الأساتذة والمعلمين، نحن الوعاظ والدعاة، نحن المديرين والمسيرين للمؤسسات التربوية والتعليمية، نحن المسؤولين في الإدارات العليا والوزارات الصادرة للقرارات.

فلو كانت لدينا قلوب تحتضن هؤلاء الشباب، ولو كانت لدينا إحساسات تستشعر نبضات هؤلاء الشباب، ولو كانت لدنيا البرامج التعليمية التربوية التي تنمّي مهارات هؤلاء الشباب، ولو كانت لدنيا أندية ثقافية تأوي هؤلاء الشباب وتملأ فراغاتهم، ولو كانت لدينا برامج دعوية إرشادية تؤطر هؤلاء الشباب، ولو سُمح للدعاة والوعاظ بأن يجوبوا الشوارع والأزقة والأسواق، وأن يطرقوا أبواب المؤسسات التعليمية والإدارات لتبصير الناس بأمور دينهم، لما كان على أكثر شبابنا بأس في السلوك أو بُؤس في التفكير، ولا قِصر في النظر، ولا تشتت في الحياة، ولا انحراف في السلوك، ولا تنكر للخلق القويم، ولا ابتعاد عن الإيمان الذي هو قوام الحياة.

قبل أيام جمعني مسلك في بعض الأزقة بشباب، كل منهم كان يغني على ليلاه قولاً وسلوكا، صكّت مسامعي عبارة لأحدهم ليس فيها ما يُسمع فحشاً وسخفا، وكدت أن أترك الأمر يمر على اعتبار أن أحاسيسنا ومسامعنا تبلّدت أو كادت من كثرة ما نسمع من مثل هذه العبارات، التي تصل في كثير من الأحيان إلى درجة سب الدين، وسبّ الذات الإلهية. دون أن يتحرك لنا ساكن، لكني استدركت الأمر وقلت في نفسي: لعل وراء هذا اللسان البذيء جَنان فيه شيء من الحياء أو سؤر من الإيمان، فالتفت إلى هذا الشاب واحتضنته بيدي اليمنى بعد أن صافحته، سألته عن مستواه الدراسي، فأجابني -بأدب جم- بأنه طالب في المدرسة الفندقية، بعد ذلك قلت له: لو قُدّر لك أن تكون مع أبويك أو أخواتك هل تحب أن تسمع من أحد ما تلفظت به؟ فقال: لا والله يا عم. فقلت له: أتحب أن يسمع منك ما تلفظت به من هو مع أبويه أو أخواته؟ قال: لا والله يا عم. قلت له : أليس أحسن لنا وأتقى لنا أن ننزه ألسنتنا ومسامعنا عن مثل هذه العبارات؟ قال: بلى والله يا عم..

بهرني هذا الشاب بأدبه واحترامه، بعد أن ظننت به الظنون، وودّعني بعد أن وعدني ألا يعود إلى التلفظ بمثل هذه الأقوال.. وقبل ذلك بأسابيع مررت بمجموعة من الشباب قرب مؤسسة تعليمية، وهم يدخنون بعض السّموم، فقلت سبحان الله شباب في مقتبل العمر لم يكتفوا بتدخين السموم العادية بل أضافوا إليها ما هو أخطر، وابتعدت خطوات وأنا أعزي النفس عن هذه المآسي، لكني استدركت وعدت إليهم مصمما على مفاتحتهم في الموضوع، واستطلاع آرائهم فيما هم فيه غارقون، وبعد أن ألقيت عليهم التحية وصافحتهم، استحى معظمهم وخبأ ما بيده وراء ظهره، وبعد حوار قصير عن الدراسة وعما بأيديهم من سموم رمى كل واحد ما بيده، بعد أن عاهدوني على عدم العودة إليه مرة ثانية مهما كان الأمر.

هاتان لقطتان من مجموع لقطات عديدة يمكن أن يكون قد عاشها كل واحد منا هنا أو هناك، بصورة أو أخرى، وكلها تدل على أن شرائح كبيرة من شبابنا بخير، تنتظر من يأخذ بيدها، موجها مرشداً ومربيا وناصحا.

وإذا تجاوزنا هذه الشرائح الواعدة، ونظرنا إلى طوائف أخرى من شبابنا، من أولئك الذين يصطفون في الجهة الأخرى، أولئك الشباب المؤمنون بربهم، المعتادون للمساجد، فغدوا وهم مع شبابهم مكتهلون، غضيضة عن الحرام أعينهم، بطيئة عن الشر أرجلهم، في نهارهم صائمون، ولليلهم قائمون، ولآيات الذكر الحكيم قارئون ومتدبرون، إذا مر أحدهم بآية فيها ذكر الجنة بكى شوقاً إليها، وإذا مر بآية فيها ذكر النار شهق شهقة كأن زفير جهنم في أذنيه، هؤلاء الشباب الذين هم في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله في تلك الدار، وهم في هذه الدار أمل هذه الأمة في أن تعود إلى ربها راشدة مهدية، حتى تقود العالم من جديد، بحضارة بانية رائدة.

 

 د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>