ألم قلم – الديمقراطية بين الأصل السليم والفرع اللئيم


لعل أبسط تعريف مما يُقدّم للديمقراطية -باعتبارها نظاما سياسيا سائداً في العديد من المجتمعات الحديثة- هو حكم الشعب لنفسه بصورة جماعية عن طريق نظام التصويت والتمثيل النيابي.
ولقد أثير جدل كبير حول علاقة الديمقراطية بالشورى، وأسيل فيه مداد كثير، بين رابط ومفرق، وموفق أو ملفق. لكن كيفما كان الحال، فإنها حسب ما يبدو على الأقل حتى الآن في خضم الأنظمة السياسية المتعددة التي يعرفها العصر الحاضر، أفضل نظام سياسي بما يتيحه من هامش الحرية الفردية والجماعية، ولما يتوق إليه مُطبّقوه والمرغبون فيه من تحقيق الحد الأعلى من الحقوق والحريات الفردية، ثم لأنه مِحَكّ تُمتحن فيه الأعمال، وتُختبر فيه الأفعال، ويُقارن فيه بين الآراء والمقولات النظرية، وبين الإنجازت والتطبيقات العملية، ولذلك فإن من يخدم الشعب بصدق نية وإخلاص في العمل يمكن أن تكون له الريادة والزعامة دائما، فيحتضنه الناس ويتبنون أفكاره ويدافعون عنها، ومن ثم يشعرون ويدركون أن لآرائهم نصيباً في العمل السياسي وبناء الأمة.
لست بصدد التلفيق بين هذا وذاك، ولكن الذي يبدو أن من طبيعة السياسة الرشيدة، ثم من طبيعة الإنسان ذاته، رغبته في إشراكه في الحكم والقرار السياسي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
ولهذا أقرت شريعة الإسلام منذ نزولها مبدأ الشورى، وجعلته أساساً فيما يتعلق بأمور الدنيا، وترسخ في الثقافة الإسلامية العامة أن الشورى أساسٌ متين للحكم الرشيد، انطلاقا من قوله تعالى : {وأمرهم شورى بينهم} وقوله عز وجل : {وشاورهم في الامر} قال القرطبي: ((مدح الله المشاورة في الأمور بمدح القوم الذين كانوا يمتثلون ذلك. وقد كان النبيّ صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الآراء المتعلقة بمصالح الحروب؛ وذلك في الآراء كثير. ولم يكن يشاورهم في الأحكام؛ لأنها منزلة من عند الله على جميع الأقسام من الفرض والندب والمكروه والمباح والحرام. فأما الصحابة بعد استئثار الله تعالى به علينا فكانوا يتشَاورون في الأحكام ويستنبطونها من الكتاب والسنّة. وأوّل ما تشاور فيه الصحابة الخلافةُ؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم ينص عليها…. وتشاوروا في أهل الردة فاستقر رأي أبي بكر على القتال. وتشاوروا في الجَدّ وميراثه، وفي حدّ الخمر وعدده. وتشاوروا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحروب)). ولقد نص العديد من العلماء والحكماء في أقوالهم على أهمية التشاور؛ قال الحسن البصري: ((ما تشاور قوم قطُّ إلا هُدُوا لأرشد أمورهم)). وقال ابن العربي: “الشُّورَى أُلفة للجماعة، ومسبار للعقول، وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم قط إلا هُدُوا”. وقال بعض العقلاء: “ما أخطأت قط، إذا حَزَبَني أمر شاورت قومي، ففعلت الذي يرون؛ فإن أصبت فهم المصيبون، وإن أخطأت فهم المخطئون. وقال بعضهم:
إذا بلغ الرأيُ المشورةَ فاستعن
برأي لبيبٍ أو مشورةِ حازم
ولا تجعل الشورى عليك غضاضة
فإنّ الخَوَافـي قوّة للقوادم
إن الاستشارة، بهذا المفهوم الوارد في هذه الأقوال، تهدف إلى ما تهدف إليه الديمقراطية على اختلاف دلالاتها، بل وأكثر من ذلك. وعليه فإن الأصل السليم للديمقراطية هو ذلك التشاور البنّاء، الهادف إلى خدمة الفرد والجماعة والأمة. وأما الفرع اللئيم فهو ما كان هدفه خدمة مصالح ضيقة، قائم على التزييف والطبخ المسبق.
د. عبد الرحيم بلحاج

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>