خروق في سفينة المجتمع(8) سفينة العرب وخرق الشتات والخذلان


عندما هبت رياح الربيع المباركة على سفينة العرب، كانت عناكب اليأس قد عششت في كل زاوية من زواياها، وبدا لمن أعوزتهم الرؤية السديدة للتاريخ، أنه لم يعد بينها وبين الانحطام والغرق المحتم إلا ذؤابة من زمن قليل، وأنه خليق بركابها أن يستعدوا لقدر لا يملكون منه فكاكا، قدر الهلاك والاندثار، والانسحاب تماما من حلبة التاريخ، ليخلو الجو للفراعنة والطغاة الذين أبوا أن ينصتوا لصوت التاريخ الهادر، ويصيخوا الأسماع لسنته الماضية، وفضلوا في المقابل أن يستجيبوا لصوت الأهواء الجامحة، ونزعات الفجور الرعناء، التي سولت لهم أن يسوموا الناس خسفا وجورا، ويكبلوا الأحرار بالسلاسل والقيود، ويزجوا بهم في دهاليز القهر والتنكيل، لكن لحظة الربيع المضرجة بالدم والدمع جاءت لتحيي الموات وتبعث الرمم، ، ولتكشف عن معدن العرب الأصيل.
كان نصيب كل فئة من فئات الركاب من روح اليقظة ونسغ الحياة، بقدر ما لامس كيانها من هبات الرياح، وما انغرز في مسامه وأعصابه ومفاصله، من حبوب اللقاح القادحة للوعي، المفجرة للهب المقدس، وهذا ما يفسر التفاوت في حظوظ التحرر والانعتاق، وتنسم أريج الأمن والأمان، بين فئات وفئات، ممن اقتسموا أعلى السفينة وأسفلها، لقد كان من أمر هؤلاء أن أصيبوا بارتجاج، تحركت على إثره الهمم، واقتحم من هم في الأسفل على من هم في الأعلى مواقعهم التي استأثروا بها، واعتقدوا لطول مقامهم بها أنها ملكهم الخاص الذي لا ينازعهم فيه أحد، وكان ما كان من اقتلاع بعض من سطوا على غرفة قيادة السفينة في جنح الظلام، كما تقتلع الأورام، وسالت دون ذلك دماء غزيرة عزيزة، تحولت معها مياه البحر إلى حمرة قانية، وسرت منها دفقات قوية غسلت أرجاء السفينة، وطهرتها من الأوبئة والأوضار، لتبدأ رحلتها الجديدة إلى آفاق الحق والخير والجمال.
لقد استفرغت قوى السفينة الحية، مدججة بسلاح الوعي والإيمان، كل طاقتها لتنقية جيوبها مما علق فيها من فلول الشر وبقايا الفجور والإفلاس، لكنها فوجئت بمقاومة عنيدة لبعض تلك الفلول وبتمسكها بالبقاء، ولا تزال معركة طاحنة تدور رحاها بين شراذم البغي التي تعيش على رصيد الغرور والغطرسة والأوهام، وبين من انتدبوا أنفسهم وباعوا أرواحهم رخيصة، لتواصل السفينة إبحارها إلى بر الأمان.
غير أن أرواحا عزيزة أزهقت، ودماء طاهرة سفكت، بسبب شتات ضرب صفوف أهل السفينة وشرائحها، وحملهم على خذلان المستضعفين من الرجال والنساء الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا. وما كان لهذا الخذلان أن يكون، لو سارت السفينة برأس واحدة تهتدي ببوصلة الحق، وتبحر بشراع العدل الذي يقضي بمقاتلة أهل البغي، استجابة لقول الله تعالى: {وإن طائفتان من المومنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله، فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين}. يضع شرع الله هذا العلاج الناجع بين أيدي المؤمنين، حتى في الحالة التي يجمع فيها بين الفريقين المتقاتلين قاسم الإيمان، فما بالك والمواجهة هي من جهة بين طائفة باغية مدججة بأفتك الأسلحة، جمعت إلى الغلو خيانة الوطن وممالأة العدو الصهيوني جهارا نهارا، وسجلها حافل بالجرائم المخزية في التنكيل بالشعب، والتخاذل في صيانة مقدسات الأمة في فلسطين، و من جهة أخرى بين طائفة مؤمنة عزلاء، لا تملك غير إيمانها وروح الإباء والفداء التي تملأ كيانها، وتدفعها دفعا إلى استرخاص دمائها الغالية وتقديمها قربانا في سبيل أن يسلم للشعب دينه وكرامته، وللوطن حريته وقداسته.
ومما يملا القلوب غيظا وغضبا أن تضطر منظمة العرب التي تحمل صفة الجامعة وما هي بجامعة، إلى إحالة قضية شعب سوريا المنكوب، الذي مر عليه عام كامل وهو يتعرض لحرب إبادة عاتية أتت على الأخضر واليابس،إلى مجلس يحمل صفة الأمن زيفا وزورا، ليجد عنده الحل المنصف والحاسم، وذلك بعد أن برهنت فرق التحقيق الموفدة إلى بلاد الشام عن عجزها التام وفشلها الذريع، وعن خرس لسانها، أو تلعثمه في أحسن الأحوال، عن الإدلاء بشهادة الحق، فقفلت خائفة مذعورة، لا تلوي على شيء، لشدة ما رأت هناك من هول البغي والعدوان، وشراسة المجازر التي أقيمت لشعب مظلوم عيل صبره، فخرج يسطر ملامح التضحية والفداء، ويصوغ سلسلة خالدة من جمع التحدي والصمود، كان من حلقاتها جمعة تحمل عنوان: “صمت الجامعة العربية يقتلنا”، فكان ذلك إدانة لتلك الجامعة المشلولة ووضعا لها في قفص الاتهام، الذي لن ينزع عنها حتى تكفر عن مشاركتها في الإجرام، ببناء جيش عتيد، يتجرد بكل قوة وعنفوان لإنقاذ شعب سوريا المكلوم، وافتكاكه من بين براثن الوحش الغدار، الذي ألصقت به صفة الأسدية والبشارة ظلما وبهتانا.
هذا هو المسلك العادل والموقف الشجاع، ولكنه لا يزال حلما بعيد المنال، في ظل أوضاع مريبة يطبعها التلكؤ والتقاعس، بل التخاذل والتواطؤ، ولا غرو، فقد عجزت أغلب حكومات العرب، وتدنت همتها حتى عن استدعاء سفراء النظام الغاشم لديها لمساءلتهم ، فهل بعد هذا العجز من عجز؟! ولا بد في هذا السياق أن نقف وقفة احترام وإجلال لتونس الخضراء حكومة وشعبا، فقد كانت وفية لثورتها ودمائها، وبرهنت على وفائها لمبادئ التضامن والإخاء، التي تشد بأواصرها شعوبا تجمعها وحدة اللغة والدين، والهدف والمصير. ومن عجب أن تظل الأنظمة العربية رهينة عجزها وشتاتها، ورهينة انهزامها إزاء لعبة الأمم المقيتة التي تضحك بها على أذقان العرب، وتجرجرهم في أوحال المذلة والسخرية والاستخذاء، من خلال تبادل الأدوار داخل صحن مجلس الغبن الذي تذبح فيه الحقوق صباح مساء، وتنحر فيه القيم. ومصدر العجب هو كون هذه الأنظمة العربيةـ لو كانت راشدة ـ قادرة على إلجام دول الفيتو البغيض، وإلقامها حجرا، وحملها على كسر ذلك الفيتو اللعين، وإلقائه في البحر، أفيعجز العرب عن تلقين سليلي الدب الأحمر والتنين الأصفر درسا في الكرامة والولاء لله ولرسوله وللمؤمنين؟ لماذا لا يحذو العرب حذو تركيا التي أعطت الدليل تلو الدليل على علو المحتد وأصالة المعدن؟ لماذا؟ ولماذا؟ ولماذا؟ أسئلة حائرة دائرة، فعسى أن يكون في هبوب نسائم الربيع الآتية، ما يجعل الآلام والآمال، ثمرات سائغة وقطوفا دانية.
د. عبد المجيد بنمسعود

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>