المرحلة الثالثة : مرحلة العلاج
لقد سلك الإسلام في معالجة آثار الفقر طريقتين : الأولى نفسية لعلاج آثاره النفسية من غم وهم وإحباط. والثانية لعلاج آثاره المادية من خصاص وجوع وعري وشقاء.
العلاج النفسي والروحي
ينطلق العلاج النفسي لآثار الفقر في المنهج الإسلامي من مبدأ ديني روحي يستمد جرعاته من العقيدة الإسلامية والشريعة المحمدية.
ففي مجال العقيدة يقرر الإسلام أنه لا يكتمل إيمان العبد ولا يصح له دين إلا إذا آمن كل الإيمان بحقائق تعتبر من صميم الإيمان وحقيقته ومقياسا لصحة عقيدة الإنسان وسلامة دينه، وهي :
1- الإيمان بأن الأرزاق بيد الله، فالله وحده هو الرازق والقابض والباسط، بيده الغنى والفقر لا يشاركه في ذلك ملك مقرب، ولا نبي مرسل، ولا صنم يعبد ولا ولي يزار، ولا بشر يتملق، وهي عقيدة قررها القرآن في عشرات الآيات وأكدتها السنة في عدة أحاديث قدسية ونبوية للفت النظر إليها والتنبيه عليها ليَلاً يغفل عنها ويلجأ لغير الله ويشرك به في هذا. وهكذا نقرأ قوله تعالى : {الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر} وهي آية تكررت في القرآن عشر مرات بزيادة ونقص.
وقوله : {يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم، هل من خالق غير الله يرزقكم من السماء والأرض}، وقوله:{إن الذين تدعون من دون الله لايملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق}، وقوله : {أَمَنْ هذا الذي يرزقكم إن أمسك رزقه}.
2- أن لكل مخلوق رزقه المقدر له لا يزيد بالطلب والجشع، أو الحرص والاحتيال، ولا ينقص بالكسل والاهمال، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة الثابتة أن المولود يكتب أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد وهو في بطن أمه عند نفخ الروح فيه.
3- الإيمان بأنه لن تموت نفسه حتى تستوفي رزقها، لما جاء في حديث ابن ماجة وغيره : “أيها الناس اتقوا الله واجملوا في الطلب، فإن نفسا لن تموت حتى تستوفي رزقها وإن أبطأ عنها فاتقوا الله واجملوا في الطلب، خذوا ما أحل ودعوا ما حرم”.
وفي حديث آخر : “لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت”(القرطبي : 30/17).
4- أنه لن ياكل أحد رزق غيره ولا ياكل غيره رزقه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه.
5- أن تفاوت الناس في الرزق والتفاضل بينهم فيه، ووجود الفقير بجانب الغني لم يات عبثا، ولا وجد سدى وإنما ذلك بتقدير العليم الحكيم لأسرار إلهية وحكم ربانية أشار القرآن الكريم إلى شيء منها في قوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف في الأرض، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم}(الأنعام)، وقوله : {من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا، ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مومن فأولئك كان سعيهم مشكورا، كُلاًّ نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظوراً انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا}(الإسراء)، وقوله : {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا}.
وهكذا تتجلى حكمة الله تعالى في هذا التفاوت الذي يعيشه الناس في الحياة الدنيا منذ خلق الله الدنيا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها أحب من أحب وكره من كره وهي :
- امتحان الناس واختبارهم بالغنى والفقر ليظهر الشكور من الكفور، والصبور من الجزوع ليثبت الأغنياء الشاكرين والفقراء الصابرين ويعاقب الناقمين الساخطين والجاحدين الكافرين.
- التذكير بالتفاوت الكبير والتفاضل الهائل في الآخرة بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وبين أصحاب الجنة أنفسهم ليسارع الناس ويتسابقوا إلى تلك المباراة المنتظرة ولا يتكاسلوا ويقصروا في العمل الصالح، ولاينحصر همهم في متاع الدنيا الفانية.
- تسخير بعض الناس لخدمة البعض فالغني مسخر بخدمة الفقير بماله ورزقه يجمعه ويدفعه له، والفقير مسخر لخدمة الغني بنفسه ومواهبه كل منهما يكمل الآخر ويخدمه، كما قال المتنبي :
الناس للناس من بدو وحاضرة
بعض لبعض وإن لم يشعرو ا خدم
لو كان الناس كلهم أغنياء أو كلهم فقراء لاستحال التعاون والتعايش بينهم على أحسن حال وصدق الله العظيم إذ يقول : {ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأرض، ولكن ينزل بقدر ما يشاء إنه بعباده خبير بصير}.
العلاج التشريعي
يتمثل في التعاليم الإسلامية التي جاء بها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة من :
- التسوية بين الغني والفقير في الحقوق والواجبات وإلغاء عامل الفقر والغنى في المفاضلة بين الناس في الأحكام الدينية والدنيوية والاعتماد على عامل الدين والتقوى وحده ونبذ النظرة الجاهلية التي تقدس الغني لغناه وتحتقر الفقير لمجرد فقره.
وفي هذا الإطار يأتي قوله تعالى : {إن أكرمكم عند الله أتقاكم}، وقوله : {وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا}، وقوله : {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن، وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانني كلا}.
وفي الحديث القدسي : كلا إني لا أكرم من أكرمت بكثرة الدنيا، ولا أهين من أهنت بقلتها وإنما أكرم من أكرم بطاعتي، وأهين من أهين بمعصيتي”.
وفي الحديث النبوي أن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم”.
- التحقير من أمر الدنيا والتقليل من شأنها وانتزاع حبها من القلوب وتطييب خاطر المقلين منها وتهوينها عليهم.
- وفي هذا السياق يأتي حديث “لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة لماسقى الكافر منها جرعة ماء”.
- وحديث : “ليس الغنى عن كثرة العرض ، ولكن الغنى غنى النفس” وأحاديث أخرى كثيرة في هذا المعنى.
ان التعرف على العقائد السابقة والإيمان بها والاطلاع على التشريعات السابقة واستيعابها وغيرها من نظائرها تجعل الفقير المومن في مأمن من الشعور بالضعف والضياع والاحساس بالمهانة أمام غيره من الأغنياء، وتمنحه كامل الطمانينة والسعادة النفسية وتحميه من القلق والاضطراب كلما ضاق به العيش أو فاتته فرصة من فرص الغنى أو رأى من هو أكثر منه مالا وثراء، كما يخفف ذلك من رغبة الأغنياء في الأزدياد من الغنى والسيطرة على كل شيء، ويتيحون الفرص لغيرهم، كما يحمي المجتمع من التطاحن على الدنيا والتنافس الشرير عليها، ويضمن للأمة ما يسمى في العصر الحاضر بالسلم الاجتماعي، رضا كل واحد بما في يده وقناعته به، والتسليم لغيره بما في يده وعدم التطلع إليه ومنازعته فيه، وهذا ما عرفه المجتمع الاسلامي، وعاشته الأمة الإسلامية في الشرق والغرب، فلم تعرف في حياتها صراع الطبقات وتناحرها رغم انتشار الفقر بين أفرادها حتى نسيت هذه المبادئ وغابت عن ذاكرتها وحلت محلها أضدادها فحق عليها القول وأصابها ما أصاب غيرها ودخلت في صراعات لافائدة منها ولا مخرج لها منها إلا بالرجوع لمبادئ دينها لحماية وحدتها وأمنها والتغلب على أزماتها.