حوار مع الدكتور : سمير بودينار رئيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة


مرحبا بالأستاذ الفاضل الدكتور سمير بودينار رئيس مركز الدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية بوجدة، ويشرف جريدة المحجة أن تخصوها من زاوية تخصصكم  بحديث عن العزوف عن القراءة، الذي لم يعد سلوكا فرديا أو محدود التأثير بل أصبح ظاهرة ملحوظة تسترعي الانتباه وتزداد خطورتها مع عصر الانترنيت والصورة ومواقع  التواصل الاجتماعي التي يغلب عليها التواصل الشفوي في قضايا الحياة اليومية، الأمر الذي جعل هذه الظاهرة تحظى باهتمام متزايد من قبل الدارسين  والمهتمين بالقضايا الاجتماعية والتربوية والتعليمية، وقضايا الإنماء والإصلاح بجميع أبعاده.

>> بداية في نظركم هل يمكن فعلا الحديث عن ظاهرة العزوف عن القراءة بمعيار وشروط الظواهر الاجتماعية، خاصة في مجتمعنا العربي الإسلامي، عامة ومجتمعنا المغربي خاصة؟

> أشكر لجريدتكم بداية هذه الفرصة الطيبة التي تتيحها لي للمساهمة في النقاش حول موضوع أرى أنه أصبح بالفعل أولوية ملحة، ينبغي التعامل معه لا بوصفه ظاهرة اجتماعية تنبغي دراستها فحسب، – فقد صار بالفعل ظاهرة شائعة كما تؤكد الدراسات في هذا المجال-  بل مشكلة عمومية حقيقية على المستوى المجتمعي، تتطلب إجراءات استعجالية وفعالة. فإذا أخذنا على سبيل المثال بعض المعطيات في هذا المجال (وهي استطلاعات أجرتها ورشة العمل العربية لإحياء القراءة) تبين أن ما تطبعه الدول العربية مجتمعة هو تقريبا مليون كتاب موزعة على ثلاثمائة مليون مواطن عربي، 60% منهم أميون وأطفال، و20 % لا يقرؤون أبدا، و15 % يقرؤون بشكل متقطع وليسوا حريصين على اقتناء الكتاب، وما تبقى هم 5 % من المواظبين على القراءة وعددهم مليون ونصف قارئ فقط، أي أن حصة الفرد الواحد أقل من كتاب سنويا في مقابل 518 كتابا للفرد في أوربا و212 كتابا للفرد في أمريكا. وحتى مع استصحاب العوامل المضادة لانتشار القراءة في بلادنا، التي قد تتصدر النقاش في هذا المجال من قبيل نسبة الأمية وضعف المكتبات العمومية وانتشار الرقمي ووسائط التواصل الحديثة..فإن الوضع القرائي في مجتمعاتنا العربية الإسلامية (بنسب متفاوتة) وفي المغرب تحديدا يظل خطرا، بالنظر للأدوار الأساسية التي تطلع بها القراءة في بناء الإنسان: معارف وقيما جماعية، ولما يمثله تدني مستوى القراءة في مجتمع من المجتمعات من أزمة انسداد في قنوات التواصل المعرفي والقيمي بين الإنسان ومحيطه المعرفي، وبين الأجيال المختلفة، وخاصة الأجيال الشابة الأكثر احتياجا في صياغة شخصيتها وبناء تفكيرها ومهاراتها الحياتية إلى القراءة بشكل منظم ومستمر.

>>  ما هو رأيكم في الأرقام التي تنشرها التقارير الدولية عن ظاهرة ضعف نسب القراءة وضعف عدد القراء في العالم العربي؟

> من الناحية النظرية ثمة مصدران لتشكيل معرفة أقرب ما تكون إلى حقيقة نسب القراءة، وأعداد ممارسيها المنتظمين، أولهما هو معدلات النشر والتوزيع وأرقامهما، الخاصة بوسائط المعرفة المقروءة (الكتاب والمجلة..) التي تنشرها المؤسسات العمومية المعنية بالقراءة، ودور النشر ومؤسسات التوزيع. وثانيهما، التقارير العلمية في الموضوع التي تستند غالبا لمعطيات إحصائية ودراسات ميدانية عن عادات القراءة ومؤشراتها وفق الأدوات العلمية المعروفة في البحث الاجتماعي، وهي وإن كانت تعكس الوضع عموما إلا أنها لا زالت بحاجة إلى تطوير، لما يلاحظ عليها من التضارب في بعض الحالات، وما يميز نتائجها من تمثيلية ضعيفة لواقع الظاهرة. فقد استقرأت مؤسسة الفكر العربي مثلا في تقريرها الرابع عن “التنمة الثقافية في العالم العربي” الصادر مؤخرا مجموعة من العوامل المؤثرة في توجهات القراء، مستندة في ذلك إلى عدة قضايا تتعلق بحالة النشر والقراءة في الوطن العربي، وتوصلت الدراسة إلى عدد من النتائج  الخطيرة، ومن بينها أن متوسط ساعات القراءة عند الأوروبي هو 200 ساعة سنويا، بينما تنحدر عند المواطن العربي إلى 6 دقائق سنويا.! أعتقد أنه لا أحد يختلف على الوضع العام الذي تتراجع فيه نسبة القراءة بشكل مقلق جدا وتؤكده مؤشرات متعددة في الواقع، رغم بعض الملاحظات حول الأرقام المضمنة في  الدراسات حول الموضوع.

>> هل توجد دراسات محلية للجهات الرسمية أو لمراكز الأبحاث ترصد هذه الظاهرة؟ وترصد الحلول لها؟

> احتلت هذه الظاهرة جزءا مهما من الاهتمام البحثي لما تمثله من مخاطر، فقد سبق أن أنجزت أبحاث علمية ودراسات ميدانية واستطلاعات رأي متعددة حول حجم اتساع هذه المشكلة ببلادنا، لكن الملاحظ هو أن أغلب البحوث المنجزة في هذا الاتجاه كانت إما بمبادرات فردية من باحثين، أو من قبل مؤسسات حكومية أو تجارية معنية برصد الظاهرة ومعرفة أرقام انتشار الكتاب ومعدلات الإقبال على اقتنائه وقراءته. وهو أمر يبين تقصير المؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية في دراسة الظاهرة ومعرفة حجمها وآثارها، التي تكتسي ولا شك طابع الخطورة على الواقع المجتمعي، وتمثل انعكاساتها تحديا كبيرا للسياسات العمومية في المجالات التربوية والاجتماعية والثقافية والتنموية.

ومن الأمثلة على الدراسات المنجزة في الموضوع الدراسة الميدانية المهمة التي قام بها الباحث عبد الرحمان عبد الدايمي عن “الملامح العامة للقارئ المغربي”، وتوصلت إلى نتائج صادمة بخصوص الفراغ الذي يطبع الإدارة الثقافية بالمغرب، والبحث القيم الذي أنجزه فيرونيك دو بليك Véronique De Blic حول “سوق النشر بالمغرب” Le marché de lصédition au Maroc؛ ونشر سنة 2000، وقدم فيه نتائج مفيدة بخصوص عوائق نشر الكتاب بالمغرب من قبيل ارتفاع تكلفة النشر، والأمية التي تجعل ما يناهز 15 مليون مغربي خارج فئة مقتني المكتوب، وتراجع القدرة الشرائية..، هذا بالإضافة إلى دراسة نشرت نهاية السنة الماضية قام بها مكتب الدراسات الديمغرافية والاقتصادية بتكليف من وزارة الثقافة وشملت 13 مدينة مغربية وخلصت إلى أن نسبة القراءة بالمغرب تراجعت بنسبة 2 بالمائة، وأشارت إلى عامل أراه شخصيا في منتهى الأهمية لتفسير ظاهرة العزوف عن القراءة وهو”عدم التوفر على الرغبة في القراءة” الذي يحتاج إلى مزيد من الاهتمام بدراسة أسبابه النفسية والبيداغوجية والسوسيولوجية، وسبل تجاوزه.

يمكن القول إجمالا إن هنالك جهدا علميا يبذل في الدراسة العلمية للظاهرة، لكننا بحاجة إلى الانتقال لمرحلة البناء على هذا التراكم من خلال صياغة رؤى متكاملة ومخططات عمل لتجاوز الوضع الراهن، وهو ما يطرح قضية استثمار صانع القرار وواضعي السياسيات العمومية لنتاج البحث العلمي في هذا المجال.

>> باعتباركم باحثا اجتماعيا ما هي أهم العوامل التي تقف خلف وجود ظاهرة العزوف عن القراءة؟

> سبق أن سئلت عن الموضوع في وسائل الإعلام وقلت إن السبب الرئيسي لهذه الظاهرة هو أولا وقبل أي شيء آخر غياب وعي بأهمية القراءة أصلا، وهو الغياب الذي تتفرع عنه كافة الأسباب الأخرى، فلا يمكن في تقديري التفكير في تجاوز المعدلات المأساوية لنسبة القراءة العمومية وصياغة برامج وطنية للرفع من مستوى مقروئية الكتاب في أوساط الفئات العمرية المختلفة وخاصة الشباب، ما لم ننطلق من الوعي بأن القراءة ليست ترفا، ولا حتى هواية تمارس في أوقات الفراغ، أو عملا يقتضيه التحصيل التعليمي فحسب. القراءة هي الأساس في تعلم كافة المعارف والمهارات واكتساب القيم الإيجابية الضرورية لحياتنا، وهي أمور لا يوجد توصيف لغيابها الممنهج سوى “الكارثة”.

فما معنى أن معدل مدة القراءة لدى المواطن عندنا لا تتجاوز بضع دقائق سنويا، في مقابل مئات الساعات لدى غيرنا من الشعوب الحية؟ سوى أننا نستمرئ هذا الحالة المخزية ونتقبلها ولا نرى فيها حالة شاذة ومخجلة. أعتقد أن كثيرا من الأسباب التي تقدم لتفشي الظاهرة لم تعد تتجاوز كونها أعذارا تقدم للتغطية على هذا الوضع المؤسف، من قبيل نسبة الأمية المرتفعة التي لا تعفي ملايين المتعلمين، والمستوى الاقتصادي الذي تفنده حالة الفراغ في الخزانات العامة، أو التوسع في استخدام “الرقمي” وطغيان الوسائط الحديثة على حياة الأفراد الذي تكذبه سلوكات القراءة بنهم والانتشار الكاسح لركن المكتبة وخزانة الكتب داخل أي بيت في الدول المتقدمة رغم أنها تعرف انتشارا أوسع لوسائط الاتصال الرقمية.

كل ما سبق قد يمثل أسبابا تفسر هذه الظاهرة المسيئة، لكنها تظل أسبابا ثانوية، في مقابل السبب الرئيسي وهو متعلق بمشكلة الوعي الذي نتحمل مسؤولية غيابه جميعا مؤسسات ونخبا مثقفة ومربين ومواطنين.

>>  بعض التحليلات تروم رد الظاهرة إلى تفسير أحادي بالتركيز على عامل دون غيره، إلى أي حد يمكن اعتماد هذا النوع من التفسيرات؟ وما نوع المعالجة التي يلزم التزامها في هذا الصنف من الظواهر؟

> أولا ليس هنالك مكان في تفسير أي ظاهرة اجتماعية للعامل الواحد، هذا أمر مرتبط بالمادة الأولوية للاجتماع الإنساني، أي طبيعة الإنسان كظاهرة شديدة التركيب ومتعددة الأبعاد (وليس الإنسان ذو البعد الواحد كما يقول ماركيز). بالإضافة إلى الإشكال المنهجي في بعض التحليلات للظاهرة، هنالك مشكلة الوعي العام، وهي – كما أكدت ذلك سابقا-  أننا لا نعي حجم المشكلة وخطورتها، بل لا نعترف في كثير من الأحيان بوجودها – كمشكلة كبرى-  أصلا، وهذا راجع في مجال العزوف عن القراءة لعوامل متعددة؛ للتربية في البيت أولا، التي ليس فيها مكان لاكتساب عادة القراءة، وليس فيها آباء يعطون القدوة لأبناءهم في هذا المجال أو يعودونهم على صحبة الكتاب منذ الصغر ويبينون أهمية القراءة كعادة وخطورة تركها، وللمدرسة ثانيا، التي تنشئ الطفل على التلقي السلبي والكسل، ولا ترسخ فيه رغبة البحث، فتطفئ عنده لذة السعي إلى المعرفة ومتعة القراءة ودهشتها..

تلك الأسباب وغيرها من قبيل :عدم وجود الكتاب المدعم من الدولة لتحقيق الانتشار، واستقالة الإعلام والتلفزيون خصوصا من دورهما التنويري في تحسين سلوك القراءة للمتلقي، والصورة النمطية المشوهة لمن يواظب على المطالعة، وغياب سياسة وطنية للمكتبات المدرسية والعامة، بل سياسة وطنية لتشجيع القراءة تتضمن الأندية والمسابقات التلفزيونية (ليس بالشكل الذي ينبت الضحالة، وينتج البلادة كما هو حال مسابقاتنا)، وجوائز القارئ المتميز، والبحث العلمي في شكل الكتاب المفيد والجذاب الذي يناسب مختلف الأعمار والفئات…كلها بحاجة إلى الاستيعاب الدقيق لنستطيع إدراك أولويات العلاج بناء على أهمية وأولوية كل منها.

>> هل يمكنكم أن تزودوا الرأي العام المغربي والعربي بخريطة تبين مواقع انتشار العزوف عن القراءة مثلا : من حيث الفئات ( العمر/ الجنس/ الطبقات الاجتماعية/ المستوى التعليمي ..)، ومن حيث المناطق ( الحواضر والقرى/ دول متخلفة ودول متقدمة )، المجالات( علوم / آداب، كتب / صحف…) ؟

>  ثمة محددان أساسيان من الناحية الإحصائية لما يمكن تسميته بخريطة العزوف عن القراءة: أولهما حضاري مرتبط بمستوى تقدم الدولة على سلم التنمية الإنسانية (الذي يشمل الصحة ومستوى التعليم وجودته والرعاية الاجتماعية والأسرة، ووسائط الاتصال، والبنيات التحتية..)، والثاني مرتبط بالمستوى المادي للمجتمع والأسرة والفرد القارئ، ولأن الوضع التنموي معروف في دول عالم الجنوب وضمنه أغلب عالم المسلمين، وكل الدول العربية، خصوصا من ناحية مستوى التقدم الحضاري بأبعاده الكاملة، فإننا ننتمي مجملا إلى الجزء القاتم من خريطة القراءة عبر العالم.

والمغرب كما هو معروف ينتمي لهذا المجال الجغرافي والحضاري، ولهذا يمكن فهم بعض المعطيات المتوفرة عن الموضوع ببلادنا، ومنها حسب دراسة  فيرونيك دو بليك أن نسبة القراء بالمغرب لا تتجاوز 10% من مواطنيه، رغم أن  المغرب يتوفر على أزيد من 13 جامعة و65 معهدا عاليا وكلية، وعشرات الآلاف من الطلبة الباحثين والأساتذة. بل مئات الآلاف باحتساب كافة الأطر التعليمية في جميع الأسلاك.

وفي دراسة الأستاذ عبد الدايمي عن “ملامح القارئ المغربي” التي أشرت إليها سابقا، محاولة لتقديم ملامح “القارئ النموذجي بالمغرب” وهي أنه بنسبة 18,35% ذكر بين 20 و24 سنة (إشارة إلى خريطة الجنس والفئة العمرية)، وبنسبة 91,25% مقيم بالمدينة (التوزيع المجالي)، وبنسبة 66,90% بالمائة طالب (الوضع الاجتماعي والمهني)، وبنسبة 69,5% تكوينه أدبي، وبنسبة 55,6% قارئ بالعربية مقابل 23,6% بالفرنسية (التكوين والثقافة، وهذه النسبة بالمناسبة تجعلنا نعيد النظر في الصورة النمطية عن مقروئية الفرنسي)، وبنسبة 76,95% يعتبر القراءة متعة..

للأسف لا نستطيع إلى اليوم أن نقول إن لدينا بالمغرب خريطة دقيقة لنسبة القراءة لكن هنالك محاولات متفرقة وأغلبها جهد بحثي فردي في هذا الاتجاه.

>> في نظركم ما هي المقترحات التي توصون بها أو يوصي بها الخبراء الاجتماعيون التي تفيد في الحد من هذه الظاهرة والانتقال بالمجتمع نحو تعزيز سلوك القراءة وثقافة التعلم الذاتي والمستمر؟

> صياغة الحلول المناسبة لهذا التحدي المجتمعي الكبير تبدأ من الوعي بقيمة النداء “اِقرأ”، وبضرورة القراءة لجميع الناس وفي كافة المراحل العمرية، وأهميتها الحاسمة في صناعة شخصية الفرد ومصير الأجيال ومستقبل المجتمع،  ومن هذا الاعتبار لقيمة القراءة وخطورة مشكل العزوف عنها يبدأ العمل على هذا الورش الوطني الكبير، بدءا من الدراسات والبحوث العلمية إلى السياسات القطاعية في مجالات الأسرة، والتعليم، والشباب، والمجتمع المدني، والثقافة، والإعلام والاتصال..

أشرت سابقا إلى بعض الأوراش التي ينبغي تحريك العمل عليها، لكن الأمر يحتاج إلى سياسة توعية حقيقية، وبرامج تعليمية واجتماعية وسياسات ثقافية وإعلامية متكاملة.

>>  أخيراً نشكر لأستاذنا الفاضل صدره الرحب وإفادته لنا بهذه المعلومات وإلى موعد آخر في مواضيع أخرى إن شاء الله عز وجل.

> شكرا لكم وتحياتي لكم ولقراء جريدتكم الكرام.

أجرى الحوار : الطيب الوزاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>