على مطالع قرن جديد (5/4)


هل ثمة دين أو عقيدة أو مذهب اجتاز رحلة الأربعة عشر قرناً، أو حتى القرن والقرنين، دون أن تتشعب به المسالك وتنحرف الطرق وتضل الأهداف؟

عشرات الأديان والعقائد والمذاهب، قطعت خطوات قصيرة في الزمن والمكان، وما لبثت أن تعرّضت لأكثر من محنة، فلم تصمد لها، فتمزّقت وتفتّتت وانحرفت عن الطريق.. وعشرات غيرها أشبعها الوضّاعون والكهنة والمرتزقة دجلاً وشعوذة وترّهات، لتحقيق مصلحة أو تطمين حاجة، قبل أن تقطع بعضاً من الطريق الطويل.

والإسلام هو الإسلام.. وكتابه هو الكتاب.. وسنّته هي السنة.. وهدي خلفائه وعلمائه هو الهدْي.. ليس ثمة إسلامان ولا كتابان ولا سنّتان ليس إلاّ إسلام واحد وكتاب واحد وسنة واحدة.

يمضي على ذلك أربعة عشر قرناً، أو أربعة عشر ألفاً من السنين فالأمر سواء.

إن هذا الدين يحمل عوامل ديمومته واستمراره، وهذا أمر بديهي، فما دام الله سبحانه قد أراد له أن يكون الدين الأخير، فمعنى هذا أنه سبحانه قد أمدّه بعناصر القوّة والشمول والحيوية والديناميكية ما يجعله قديراً على التواصل مع أجيال البشرية المتعاقبة، جيلاً بعد جيل.. وسواء مرّ على ظهور الإسلام قرن واحد أم أربعة عشر قرناً أم مائة وأربعون قرناً، فإن هذا الدين سيظل يحمل ما منحه الله سبحانه إياه من قوة وحيوية قديراً على الصمود حيثما يجب أن يكون الصمود، بصيراً بمطالب الحياة البشرية في كل مكان، متمكناً من الامتداد والانتشار هنا وهناك.

إنه دين الفطرة الذي يتعامل مع الإنسان بما هو إنسان معجونة في تكوينه قوى الروح والمادة، والطبيعة والغيب، والثبات والحركة، والغرائز والأشواق، والفاني المحدود بالأزلي الخالد.

ويتعامل مع الطبيعة والعالم كشفاً عن سننهما ونواميسهما التي أودعها الله فيهما، وسعياً من أجل تحقيق الوفاق المرتجى بين الإنسان والعالم..

ويتعامل مع التاريخ بما أنه حركة دائمة متجددة لا تعرف حراناً ولا سكوناً.. إنه المنظور الإلهي المعجز الذي يعرف كيف يتعامل بهذا الدين مع الإنسان، والطبيعة، والتاريخ.. وإنه لن يخشى أبداً على دين يعرف كيف يمدّ جناحيه لكي يغطي مطالب هذه الأقطاب جميعاً..

فما دام الله سبحانه قد صممّ هذا الدين و”أكمله” على يديْ رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم ليكون دين البشرية الأخير، فمعنى هذا أنه قد أريد له أن يظل باقياً ما تنفّس إنسان على وجه البسيطة.. دائماً ما طلعت الشمس من مشرقها.. خالداً ما دامت السماوات والأرض.

وعبر الأربعة عشر قرناً التي انقضت أثبت هذا الدين قدرة فذّة على قبول التحديات، وهضمها وتمّثلها، سلماً وحرباً..

لقد جوبه هذا الدين منذ فجره المبّكر بردّة شرسة قاسية، فاستجاب لها وخرج منها أكثر صلابة وتوحدّاً، وانطلق إلى العالم غير عابئ بنذر كسرى وقيصر.. فلما تمّله الانتصار عليهما عبر فترة زمنية قياسية، عرف كيف يفتح صدره لتراث الأمم والشعوب ومعطياتها الحضارية، وكيف يتعامل معها وفق معاييره الواضحة الحاسمة فيأخذ ما يمكن أخذه ويرفض ما يتحتم رفضه.. إنه ها هنا في ساحات السلم والعطاء، كما هو هناك في ساحات الحرب والشهادة قدير على الاستجابة للتحديات، غير هارب منها أو ناكص عنها، إنه دين التقدم والحركة والاقتحام، وهو يملك من عوامل القوة والأصالة والشمول ما هو قدير بها جميعاً على أن يصهر كل ما يعترض طريقه ويعيد صياغته وفق معادلاته المتميزة.

وطيلة القرون التالية وهو يتعرض لضغوط وهجمات قوى كانت في كثير من الأحيان تفوقه عدّة وعدداً.. ولكنه كان دائماً المستجيب لتحدّيها، المتقدم لمجابهتها، والمنتصر عليها في نهاية الأمر.. وليس ثمة من لا يعرف الذي فعله هذا الدين وأتباعه إزاء هجمات الصليبيين وغزو المغول.. ردّ أولاهما على أعقابها، واحتوى الثانية، فإذا بالغالب القاهر يتقبّل الانتماء للدين الذي تصوّر أنه غلبه، ويخضع له ويطيع.. وهي تجربة تاريخية تكاد تكون (نادرة) بين التجارب.. أن يخضع الغالب للمغلوب.. ولكنها في حقيقة الأمر ليست نادرة.. فإن السرّ يكمن في عبقرية هذا الدين !!

أ. د. عماد الدين خليل

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>