كان النبي صلى الله عليه وسلم ذروة في كل مفصل من مفاصل الحياة وفي شؤونها جميعا. وعندما يريد أي إنسان معرفته عليه أن يخترق قمم عظماء عصره ولا يقف إلا عند أعلى هذه القمم وأعظمها مستعينا بأجنحة خياله وإلا فاته فهمه وقصر في إدراكه. أجل، من أراد البحث عنه، عليه أن يبحث عنه في أفقه. وليس بين مستويات الأشخاص العاديين من أمثالنا، ذلك لأن الله تعالى وهبه قابليات كبيرة في كل شأن من شؤونه.
عاش فخر الإنسانية مثل شمس ساطعة ثم غرب، فلم تر الإنسانية مثيلا له من قبل ولن تراه من بعد. وكما لم تر الإنسانية هذا، كذلك لم ير معاصروه والقريبون منه شخصا إعجازيا كشخصه عليه الصلاة و السلام. وربما لم يدرك الكثيرون آنذاك غروبه إلا بما تركه هذا الغروب في قلوبهم من وحشة، كمثل الزهرة المتعلقة حياتها بضوء الشمس لا تحس بغروب الشمس إلا بعد إحساسها بالذبول جراء انقطاع ضوء الشمس عنها.. أحسوا بالوحشة ولكن الأمر كان قد فات وانقضى. ومن الطبيعي أن من يفهمونه ويعرفونه في أمته يزداد يوما بعد يوم. وعلى الرغم من مرور 14 قرنا فلا نزال نقول “أمنا لخديجة، ولعائشة ولأم سلمة ولحفصة ]ن جميعا ونحس بلذة وببهجة من هذا القول أكثر من لذتنا عندما تخاطب أمهاتنا. ولا شك أن الشعور بهذه اللذة وبهذه البهجة كان أعمق في ذلك العهد وأكثر حرارة وإخلاصا، وذلك من أجله صلى الله عليه وسلم. لذا، نرى أبا بكر ] يخاطب ابنته عائشة قائلا لها : “يا أمي” لأن الآية الكريمة تقول {وأزواجه أمهاتهم}(الأحزاب : 6). نعم، لقد كان أبو بكر ] يقول لبنته التي رباها في حجره “يا أمي”.
ولكن كل هذا الحب وهذا التقدير الذي أحاط بهن لم يكن يجدي في إزالة حزنهن وألمهن من فراقه صلى الله عليه وسلم، ولم تستطع الأيام الحلوة التي أتت بعد أيام الفتوحات في أن تقلل هذا الحزن العميق في قلوبهن.. بل استمر هذا الحزن حتى غروب حياة كل واحدة منهن. وكما كان زوجا مثاليا لزوجاته، فقد كان أبا مثاليا. وعلى المقياس نفسه كان جدا مثاليا لا يوجد له نظير أو شبيه.
كان يعامل أولاده وأحفاده بحنان كبير، ولم يكن ينسى هو يعطي كل هذا الحنان أو يوجه أنظارهم إلى الآخرة وإلى معالي الأمور. كان يضمهم لصدره ويبتسم لهم ويداعبهم، ولكنه في الوقت نفسه لم يغض طرفه عن أي إهمال لهم حول شؤون الآخرة، وكان في هذا الأمر واضحا جدا وصريحا جدا، ووقورا ومهيبا وجادا فيما يتعلق بصيانة العلاقة بينه وبين خالقه. فمن جهة كان يعطي الحرية لهم ويرشدهم إلى طرق العيش بشكل يليق بالإنسان، ومن جهة أخرى كان لا يسمح بانفلات الانضباط أو سلوك طريق اللامبالاة. ويبذل كل جهوده وبكل دقة لمنع إصابتهم بأي تعفن خلقي، ويهيئهم لعوالم علوية وللحياة الأخروية. وفي أثناء هذه التربية كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من الوقوع في الإفراط أو التفريط، بل يختار الطريق الوسط ويمثل الصراط المستقيم. وكان هذا بعدا آخر من أبعاد فطنته.
أ- شفقته على أولاده وأحفاده :
يروي مسلم عن أنس بن مالك ] الذي خدم رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ما يأتي “ما رأيت أحدا كان أرحم بالعيال من رسول الله صلى الله عليه وسلم(1) أجل، كان يتصرف بشفقة ورحمة وعن عاطفة حقيقية نابعة من صميم قلبه بحيث لم يكن بوسع أحد أن يكون مثيلا له لا في مجال رئاسته للعائلة ولا في مجال أبوته.
ولو كان هذا كلاما صادرا منا فقط لكان من الممكن بقاء أهميته محدودة. إلا أن الملايين من أمته التي تعمقت الرحمة والشفقة في قلبها إلى درجة التورع عن إيذاء نملة.. هذه الملايين كلها تعلن وتعترف بأنه لم يكن هناك مثيل له صلى الله عليه وسلم في احتضانه الوجود كله بشفقته ورحمته. صحيح أنه خلق بشرا من البشر. ولكن الله تعالى ألهمه ووضع في قلبه عاطفة الاهتمام بالوجود كله لكي يوطد علاقته مع الناس أجمعين. ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مشحونا بعاطفة قوية وباهتمام كبير تجاه أفراد بيته وتجاه الناس الآخرين.
وتوفي أولاده الذكور في حياته(2) وقد ولدت له أمنا مارية رضي الله عنها ولدا ذكرا فتوفي كذلك، وكان هذا آخرهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجد وقتا من بين مشاغله الكثيرة والمهمة فيذهب إلى مرضعة ابنه ويحتضن ابنه ويقبله ويداعبه ويشمه ويظهر له علامات حبه له(3) وعندما توفي ابنه احتضنه أيضا وقد ملأت الدموع عينيه. ثم قال وهو ينظر إلى المستغربين لحزنه : “إن العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون”. وفي حديث آخر : “إن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا” وأشار إلى لسانه.(4).
ولنكرر مرة أخرى فنقول إنه كان أرحم الناس وأكثرهم شفقة وحنانا.
كان الحسن والحسين رضي الله عنهما يركبان على ظهره ويطوف بهما.. هل تتصورون شخصا في هذا المستوى يأخذ حفيده على ظهره ويكون لهما فرسا أمام الآخرين؟ أما هو فكان يفعل هذا وكأنه كان يشير من بعيد إلى ذلك الموقع الممتاز الذي سيناله كل من الحسن والحسين رضي الله عنهما في مستقبل التاريخ. وفي أحد الأيام وبينما كان الحسن والحسين رضي الله عنهما على ظهره دخل عليه عمر بن الخطاب ] فقال لهما : نِعْم الفرس تحتكما. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : “نعم الفارسان هما.”(5).
يجوز أن الحسن والحسين رضي الله عنهما فهما ما قاله أو لم يفهما، ولكنه كان يمدحهما هكذا. وفي إحدى المرات عندما قال أحدهما للحسن ] وعلى عاتق النبي صلى الله عليه وسلم: يا غلام نعم المركب ركبت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : “ونعم الراكب هو”(6).
أجل، لقد كان يظهر عناية واهتماما خاصين بهذين الإمامين من أهل البيت الحسن والحسين رضي الله عنهما اللذين لهما الشرف والعزة والكرامة في كونهما أبوين لجميع الأولياء الذين سيظهرون حتى يوم القيامة. لذا، كان يحملهما على كتفه من حين لآخر، ولا شك أن لجميع أهل البيت ولجميع الأولياء نصيبا من هذا الاهتمام. وعن جابر قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يمشي على أربعة وعلى ظهره الحسن والحسين رضي الله عنهما وهو يقول : “نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما”(7) لقد كانت هذه هي منزلة أولاده وأحفاده عنده، فدخل حبه إلى قلوبهم وأصبح مظهرا وموضعا لحب يتجاوز علاقة الأبناء والأحفاد.
وكما كان في جميع الأمور فقد سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الطريق الوسط في موضوع تربية الأطفال. فقد كان يحب أولاده وأحفاده حبا جما ويشعرهم بحبه، ولكنه لم يكن يسمح بأي استخدام سيء لهذا الحب. هذا علما بأنه لم يكن يوجد بين أولاده وأحفاده من يحاول هذا أصلا. غير أنه عندما يقومون بتصرف خاطئ من دون عمد نرى من تصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن ضبابا من الوقار لف هذا الحب العميق. وبسلوك ملئه الدفء يسعى لمنعهم من التجول إلى مناطق الشبهات. فمثلا مد الحسن ] وهو طفل صغير يده إلى تمر صدقة، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتزع تلك التمرة من فيه قائلا له : “أما علمت أن الصدقة لا تحل لآل محمد”(8) فقد رباهم منذ الصغر على التوقي من الحرام وإبداء منتهى الحساسية في هذا الموضوع، وهذا من أفضل الأمثلة على إقامة التوازن التربوي منذ الصغر. وفي كل مرة كان يدخل فيها المدينة كنت تراه وقد ركب معه على مركبه بعض الصبيان ملتفين حوله(9) فلم يقصر رسول الله صلى الله عليه وسلم حبه على أولاده وعلى أحفاده فحسب، بل على أولاده وصبيان جيرانه وغير جيرانه أيضا.
لم يكن أولاده الذكور وأحفاده فحسب، بل على أولاده وصبيان جيرانه وغير جيرانه أيضا.
لم يكن أولاده الذكور وأحفاده هم الداخلين فقط ضمن دائرة حبه وحنانه، فقد كان يحب حفيدته أُمامة مثلما يحب حفيديه الحسن والحسين رضي الله عنهما فكثيرا ما شوهد وهو يخرج من البيت وعلى كتفه أمامة. وكان يحملها أحيانا على ظهره وهو في صلاة النافلة فإذا ركع وضعها على الأرض وإذا قام رفعها(10). كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يظهر حبه لأمامة في مجتمع كان الناس فيه حتى عهد قريب يئدون البنات. لذا، كان هذا التصرف منه تصرفا جديدا غير مسبوق من قبل أحد آنذاك.
-يتبع-
ذ. محمد فتح الله كولن
————–
1- مسلم، الفضائل، 63، “المسند” للإمام أحمد 3/112.
2- “البداية والنهاية” لابن كثير 5/328.
3- مسلم، الفضائل، 63، “مجمع الزوائد” للهيثمي 9/161.
4- البخاري، الجنائز، 44، 45، مسلم، الفضائل، 62، 63، الجنائز، 12، ابن ماجة، الجنائز، 53، “المسند” للإمام أحمد 3/193، أبو داود، الجنائز، 24.
5- “مجمع الزوائد” للهيثمي 9/182.
6- “كنز العمال” للهندي 13/650.
7- “مجمع الزوائد” للهيثمي 9/182.
8- البخاري، الزكاة، 57، مسلم، الزكاة، 161، “المسند” للإمام أحمد 2/279.
9- أنظر: “حياة الصحابة” للكاندهلوي 2/688-689.
10- البخاري، الأدب، 18، مسلم، المساجد، 41- 43.
11- مسلم، فضائل الصحابة، 98، البخاري، المناقب، 25، “مجمع الزوائد” للهيثمي 9/203.