“رحمة للعالمين”


من صفات رب العلمين أنه رحمن رحيم، فلقد قال عز وجل عن نفسه: {كتب ربكم على نفسه الرحمة}، وبذلك قضى بذلك سبحانه “أنه بعباده رحيم لا يعجل عليهم العقوبة، ويقبل منه الإنابة والتوبة، وهذا من الله تعالى ذكره، استعطاف للمعرضين عنه إلى الإقبال إليه بالتوبة”(تفسير الطبري 5/154).

ومن سمات خاتم الرسل صلوات الله عليهم، أنه رحمة للعالمين أجمعين مصداقا لقوله تعالى:  {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}، نعم للعالمين أجمعين؛ “مؤمنهم وكافرهم، فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخله بالإيمان به، وبالعمل بما جاء من عند الله الجنة، وأما كافرهم، فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بالأمم المكذبة رُسُلها من قبله”( تفسير الطبري 9/99).

فلقد كان  رحيما بأصحابه المؤمنين، ليّنا لهم؛ {بالمومنين رؤوف رحيم}، {فبما رحمة من الله لِنت لهم، ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك}(آل عمران :153)، رحيما بالناس كافة، حريصا على أن ينيب كافرهم إلى رب العزة مسلما له مؤمنا به؛ حتى إنه لما كسرت رباعية وشُجَّ في جبهته، فجعلت الدماء تسيل على وجهه قيل له: يا رسول الله، ادعُ الله عليهم، فقال “إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْنِي طَعّانًا وَلا لَعّانًا، وَلَكِن بَعَثَنَي دَاعِية وَرَحْمَة، اللهُمَّ اغْفِر لِقَومِي فَإنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ”) [أخرجه البخاري في كتاب الأنبياء]، كما كان  رحيما بالحيوان، فقال: “اتقوا الله في هذه البهائم المعْجَمة، فاركبوها صالحة وكلوها صالحة” (أخرجه أبو داود)، وقال محذرا من المعاملة السيئة لها: “دخلت امرأة النار في هرة ربطتها فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشائش الأرض”( رواه البخاري )، بل كان عطفه  يشمل حتى الجماد، فلقد قال عن  جبل أحد “هذا جبل يحبنا ونحبه” (أخرجه البخاري في كتاب الجماد والسير)، ويشمل البيئة كلها كما يبدو من قوله : “ما من مسلم يغرس غرسا، أو يزرع زرعا، فيأكل منه طير، أو إنسان، أو بهيمة، إلا كان له صدقة” (أخرجه البخاري في كتاب المزارعة)، ومن ثم أقر   مبدأ الرحمة في كل شيء، فقال: (من لا يَرحم لا يُرحم) (أخرجه البخاري في باب رحمة الناس والبهائم).

وعلى هذا الأساس أسعد الله تعالى “هذه الشريعة والذي جاء بها والأمة المتبعة لها، بمصادفتها للزمن والطور الذي اقتضت حكمة الله في سياسة البشر أن يكون التشريع لهم تشريع رحمة إلى انقضاء العالم”.(التحرير والتنوير لابن عاشور 18/169 ).

هكذا كانت سيرة الرسول الأكرم  مع العالمين، وهكذا سار السلف الصالح مع الناس أجمعين، مقتدين بسيد المرسلين، لشريعة الإسلام متبعين وبها عاملين، فانتشروا في فجاح الأرض داعين وفاتحين، وللحق والعدل ناشرين، وللمجد والحضارة بانين، وللقيم والمبادئ مؤسسين، فسادوا العالم، وانقاد لهم الناس رحمة لارهبة، وعمّ نور الإسلام أرجاء الأرض مشرقها ومغربها.

واليوم ونحن نعيش ذكرى مولد خير الأنام عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، ما أحوجنا إلى أن نقتبس من نسمات الرحمة التي بعث بها، فنتعامل بالرحمة فيما بيننا، حتى لا ينفض بعضنا من حول بعض، ولنعمل سويا على ما اتفقنا عليه، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه، حتى نبقى أمة واحدة مجتمعة معتصمة بحبل الله المتين، فلقد تداعت علينا الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعة الطعام. ولنعامل بالرحمة غيرنا من بني الإنسان، حتى نكون قدوة، ندعو غيرنا بسلوكنا وأفعالنا قبل أن ندعوه بأقوالنا، حتى نعيد للمسلم صورته المتألقة التي كان عليها على مدار التاريخ. ولنعامل بالرحمة ما يحيط بنا من كائنات وموجودات، فلقد ظهر الفساد في البر والبحر، مما بدا من تضرر العديد من الكائنات، حتى أصبحت مهددة بالانقراض أو الانقباض، ومن تضرر البيئة المحيطة بنا حتى أصبحالمجال الأخضر أبعد مما يمكن أن نتصور.

إن الخلائق اليوم أحوج ما تكون إلى رسالة الإسلام لتنقذها من براثن التخلف الاجتماعي، والتيه السياسي، والانحسار الاقتصادي، ولتعيد الأمة إلى مسارها السليم، لتكون خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>