قبل وقت يسير كان عموم الناس يعتقدون أن الإسلام، باعتباره شريعة ونظام حياة، بات من غير الممكن أن يُمكَّن له في الأرض، ليعيد التجربة التي صنعت على عين الله عز وجل في مكة، وانتقلت إلى المدينة حيث الأرض الطيبة، التي قبلت الماء، فأنبتت قوما ضرب الله تعالى مثلهم في القرآن قائلا: {كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار}. لكن كوكبة الدعاة والعلماء المخلصين، الذين لا يمكن أن يخلو منهم زمان ولا مكان، صمدت في وجه العدوان، ووقفت منافحة عن دين الرحمن، تبشر باستدارة الزمان وعودة القرآن، ينفخ روحه في أتباع النبي العدنان، محمد عليه الصلاة والسلام الذي قال: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله)).
وقف هؤلاء الأعلام كالجبال الشامخة، موقنين بعظمة ما يدعون إليه من خير، حتى تجاوزت الأمة الإسلامية مرحلة الخطر التي وسمت بفقدان الثقة في الذات، وتجاوزتها إلى مرحلة الإيمان التام بمصداقية هذا الدين وصلاحه، وإمكانية العودة تحت رايته إلى مركز القيادة والريادة والسيادة، وهو ما بشرت به هبَّة الشعوب المقهورة التي اقتلعت الطغيان واجتثته، لتطهر البلاد من الأصنام والأوثان.
إن ما تشهده بلدان في بلاد الإسلام من يقظة، لدليل واضح على أن المسلمين أضحوا وقد هبت عليهم رياح التغيير المباركة يؤمنون بأن الجولة الآن للخير القادم، ولأهل الخير القادمين، والمقتحمين للميدان بعد أن غُيبوا عنه قسرا وجورا، وأن نجم الغرب قد آذن بالأفول، وأن أباطيله لم يعد لها في الكون مكان إلا بقدر ما يملك من قوة المال والنفوذ، التي بدأت تتآكل من أطرافها، وعما قريب ستنتهي بإذن الله، لتشرق شمس الإسلام من جديد على العالمين أجمعين.
إنها البشائر في ثنايا الشدائد، ولكنالنهضة الحضارية، والعودة إلى الإسلام الحق، والمنهج الحق، والتطبيق الحق، لا يمكن أن يكون إلا من خلال العمل على منوال التجربة الأولى التي وعاها إمامنا مالك عليه رحمة الله تعالى، ولعله شاهد بعض مؤشرات التراجع والنكوص عن الصراط المستقيم، فأعلن قاعدته المشهورة: (لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها).
إن المسلمين جميعا مدعوون إلى توبة نصوح، تمكنهم من العمل بالقرآن الكريم باعتباره مصدرا للهداية والرشاد ومنهجا للحياة، والاقتداء بمن قال عنه رب العزة: “وإنك لعلى خلق عظيم”، وقالت عنه أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -وهي من أقرب الناس إليه، وخاصة في خلواته صلى الله عليه وسلم-: (كان خلقه القرآن)، وذلك من خلال العمل أيضا بسنته التي هي بيان للقرآن، ودراسة سيرته التي هي التطبيق العملي للقرآن، وكل هذا لا يمكن أن يفهم حق الفهم، وأن يفقه حق الفقه، إلا بإتقان قواعد اللسان الذي أنزل به الهدى والفرقان.
إن الأمة الإسلامية مدعوة إلى التداعي على مائدة تلك الحقبة المباركة، التي تخلق فيها ذلك الجيل القرآني الفريد ووُلد، ومدعوة إلى استنباط الدروس والعبر من تلك الظروف التي صنعت ذلك المجتمع الفاضل، لتشيد على أساسه بنيان الأمة المسلمة الشاهدة من جديد، ذلكم أن القفز على المراحل وإهمال الشروط وعدم الإفادة من تجربة التأسيس الأولى لا يمكن أن تؤتي أكلها، وأن البناء المؤسس على قواعد فاسدة لا بد أن تخسف به الأرض، إن عاجلا أو آجلا، وأمتنا اليوم تملك من الطاقات والإمكانات ما يؤهلها لأن تكون الأمة الرائدة الشاهدة، وفي مقدمة هذه الإمكانات كتاب الله عز وجل، الذي هو الضمان الوحيد للنهضة السليمة، والقَوْمة الحضارية لهذه الأمة.
إنه الكتاب الذي يعتبر روح هذه الأمة؛ فلقد كان سبب ولادتها بالأمس بعد أن لم تكن شيئا، ووسيلة جمع شملها بعد أن كانت طرائققددا، ومنهج هدايتها بعد ضلالة عمياء، وأساس علمها بعد جهالة جهلاء، وهو الذي جعلها {خير أمة اخرجت للناس}، وله بالتأكيد الآن – في عصر الرقميات والذرة – القوة المرجعية والدافعة على بعث هذه الأمة من جديد،،،
لأنه الكتاب، الوحي المنزل من رب العالمين على العالمين.
لأنه الكتاب الذي قامت على أساسه حضارة الإسلام العظيمة، التي وصلت الأرض بالسماء، وساست الناس بالشريعة الغراء، وجعلتهم سواسية، لا فضل لأحدهم على الآخر إلا بالتقوى.
لأنه الكتاب الذي يحفظ الأمة من الذوبان ويدفعها إلى الارتقاء.
لأنه الكتاب الذي يجمع بين العلم والعمل.
لأنه الكتاب الذي يحفظ كرامة الإنسان ويحميه من الاستعباد.
لأنه الكتاب الذي يجمع شمل الأسرة ويعصمها من الفساد.
لأنه الكتاب الذي يحفظ للمجتمع تكامله وتكافله للوقوف في وجه الإفساد.
لأنه الكتاب الذي يدعو إلى الشورى في الحكم والعدالة في التوزيع.
لأنه الكتاب الذي يضمن الحقوق في زمن المطالبة بالحقوق…
أخرج الترمذي و الدارمي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((تكون فتن كقطع الليل المظلم، قلت: يا رسول الله ! و ما المخرج منها؟ قال: كتاب الله تبارك و تعالى، فيه نبأ من قبلكم و خبر من بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، و من ابتغى الهدى في غيره أضله الله، هو حبل الله المتين، و نوره المبين و ذكره الحكيم، وهو الصراط المستقيم، و هو الذي لا تزيغ به الأهواء، و لا تلتبس به الألسنة، و لا تتشعب معه الآراء، و لا يشبع منه العلماء، ولا يمله الأتقياء، و لا يخلق على كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، و هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا، من علم علمه سبق، و من قال به صدق، ومن حكم به عدل، و من عمل به أجر، و من دعاإليه هدي إلى صراط مستقيم )).
عبد الحميد الرازي