اللباس يصنع التاريخ – اخلع نعليك


جاء موسى عليه السلام قومه بني إسرائيل بآيات بينات، كان للباس فيها نصيب وافر، ومنها النعلان والجيب والعصا.

 أولا : خلع النعلين :

كان خلع النعلين نقطة فاصلة في حياة موسى عليه السلام بين مرحلتين: مرحلة ما قبل النبوة، ومرحلة ما بعد النبوة، ومن وراء ذلك كانت تلك لحظة التحول الكبرى في حياة بني إسرائيل خاصة والحياة البشرية عامة. كان ذلك إيذانا بنزع الجبروت لباس جبروته ووأد الألوهية الزائفة المستكبرة في الأرض، وبداية المـــنّ على المستضعفين: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الارضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ}(القصص : 4- 5).

لم يكن ذلك ممكنا قبل التجرد الكامل لطاعة الله عز وجلّ والامتثال له وإفراده بالوحدانية والملك والجبروت. وكان خلع النعلين رمزا لخلع الحول والطول والتقدم إلى حضرة الألوهية في خضوع وخشوع وذل وانكسار. لابد من نفي الذات من أجل إثبات الذات. نفي الذات كليا بحضرة الله عز وجل، بحضرة الخالق مالك كل شيء، من أجل إثبات الذات أمام المخلوق الذي يبيين ضعفه واستسلامه مهما تظاهر بالعظمة والسلطان.

يريد بعض أصحاب التفسير الإشاري أن يكتفي بالقول بأن خلع النعلين تعبير مجازي يراد منه خلع الروح والجسد والتجرد الكامل والفناء المطلق قبل التقدم للمثول بين يدي الله عز وجل. ويذهب بعضهم إلى أنه إشارة إلى خلع الدنيا والآخرة ولا يبقى غير وجه الله عز وجل. ولكن الأمثل أن يكون خلع النعلين خلعا حقيقيا لنعلين حقيقين، وإن كان لا مانع بعد ذلك من أن يكون ذلك الفعل الحقيقي الظاهر رمزا لفعل حقيقي باطنيّ المراد منه التجرد الكامل كما ورد في القرآن الكريم: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى  إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى  إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى}(طه :9- 16).

لقد رأى موسى نارا فراح يلتمس لديها هدى، هدىً يهديه في طريقه الدنيوي، فكان أن خوطب: ((أن بورك من في النار ومن حولها))إذ ليست النار التي رأى موسى غير نور السماوات والأرض، فانتقل من الهدى الأرضي المحدود إلى هدى الإيمان المطلق. وكان النداء الإلهي الأول لموسى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى}(طه : 12). وكان ذلك هو الأمر الأول الذي تلقاه موسى من رب السماوات والأرض: ((فاخلع نعليك)).

وما زال خلع النعلين منذ ذلك الحين عند كثير من الحضارات وعند كثير من ذوي النحل والملل والأديان رمزا للامتثال والخضوع والطاعة والانقياد بالنسبة لمن يخلع نعليه، ورمزا للتبجيل والإجلال والإكبار لمن يخلع النعل لديه. وشاع عند المسلمين خلع النعلين في الصلاة ويسأل بعض الناس عن حكم الصلاة في النعلين، ولكن ما من أحد يسأل عن حكم الصلاة بدون نعلين إذ كان ذلك هو الأصل، ومن جاء على أصله فلا سؤال عليه كما يقال.

ثانيا : جيب القميص :

وأما الجيب، جيب القميص، فكان مرتبطا بإحدى الآيات التسع التي جاء بها موسى لتكون حجة على الناس، وهذا هو الخبر كما يقصه علينا القرآن الكريم: {إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُم بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ فَلَمَّا جَاءهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ  يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ  إِلَّا مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}(النمل : 7- 12).

{فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ  فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي مِن شَاطِئِ الْوَادِي الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ  وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ }(القصص : 29- 32)

قال أهل التفسير :({اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ} أي من غير برص -وكان عليه السلام آدم أقنى جعدا طوالا- فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء مثل الثلج ثم ردها في جيبه فعادت كما كانت على لونها).

ثالثا : العصا :

رأينا أن موسى عليه السلام جاء فرعون وقومه بتسع آيات، ومنها العصا، ولاشك أن العصا أعظم آيات موسى. وكل الذين صنفوا في اللباس جعلوا العصا من الزينة وذكر الجاحظ بعض خصائص العصا في الجزء الثاني من كتابه البيان والتبين، وجعل في الجزء الثالث منه (كتاب العصا)، وكان مما قال: (وأما العصا فلو شئت أن أشغل مجلسي كله بخصالها لفعلت)(1). وقال أيضا: ((والدليل أن أخذ العصا مأخوذ من أصل كريم، ومعدن شريف، ومن المواضع التي لا يعيبها إلا جاهل، ولا يعترض عليها إلا معاند، اتخاذ سليمان بن داود  صلى الله عليه وسلم العصا لخطبته وموعظته، ولمقاماته، وطول صلاته، ولطول التلاوة والانتصاب، فجعلها لتك الخصال جامعة.

قال الله عز وجل وقوله الحق : {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ}(سبأ : 14). والمنسأة هي العصا)(2).

وقال أيضا: ((وقد جمع الله لموسى بن عمران عليه السلام في عصاه من البرهانات العظام، والعلامات الجسام، ما عسى أن يفي ذلك بعلامات عدة من المرسلين، وجماعة من النبيين. قال الله تبارك وتعالى فيــــــما يذكــــــر من عصاه: {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى  قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى  فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى  وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَــــــا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}( طه : 63- 69).

وقال الله عز وجل: {قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}(الأعراف : 116- 118).

ألا ترى أنهم أنه لما سحروا أعين الناس واسترهبوهم بالعصي والحبال، لم يجعل الله للحبال من الفضيلة في إعطاء البرهان ما جعل للعصا، وقدرة الله على تصريف الحبال في الوجوه، كقدرته على تصريف العصا)(3).

لقد دون عبد الفتاح كيليطو ما يلي : (في الوادي المقدس طوى خاطب الله موسى. ((وما تلك بيمينك يا موسى قال هي عصاي أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى)) أي مآرب؟ خصص الجاحظ في كتابه البيان والتبيين حوالي ستين صفحة لتعدادها)(4). وليس الغرض استقصاء ما يتعلق بالعصا، بل الغرض التنبيه على ما كان لنعلي موسى وجيبه وعصاه من أثر في صناعة التاريخ.

د. حسن الأمراني

——

(1) البيان والتبين: 3/44

(2) البيان:  3 /30.

(3) البيان: 3/32

(4) حصان نيتشه: 12

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>