استعمالات اللغة العربية الجديدة إلى أين؟ 14-  الاستعمالات الخاطئة تفقد اللغة قيمتها التعبيرية


إشكال جهل كثير من المثقفين العرب لغتهم :

الأخطاء اللغوية بين سَقَطات العلماء وتقصير المثقفين(3)

 

تحت هذا العنوان ناقشنا في المحجة (عدد 371) استعمال بعض الكلمات التي نرى أن استعمالها غير سليم في السياقات التي  وردت فيها. وفي هذه المقالة نناقش ما بقي من تلك الكلمات وهي كلمة (استخدام)، وكان المفروض أن نناقشها في الحلقة الماضية، ولكن ضيق المجال حال دون ذلك، ولذا نخصص لها هذه المقالة مذكرين برقمها في العدد الماضي الذي هو حرف (د) ضمن الكلمات الواردة تحت رقم 1. وقد أوردنا بعد ذلك مجموعة من النصوص ا لتي استعملت فيها مرقمة من 1 إلى 6 نقتصر في هذه الحلقة على واحد منها لأجل التمثيل وتجنبا للتكرار. وهو قوله : ((… ويترتب على هذا التعريف (ويعني اختلاف اللغة عن سائر المواد التي تخضع للدراسة في أنها قد تدرس باعتبارها أداة ووسيلة) أن اللغة الفصحى الأداة هي ملك لكافة العرب، وأن (استخدامها) واجب كل المثقفين ال عرب)) (المحجة  371 ص 15 ع2).

نرى أن كلمة (استخدام) غير مناسبة في هذا النص، وفي غيره من النصوص التي جردناها من كتاب اللغة العربية الصحيحة موثقة في العدد المشار إليه أعلاه من جريدة المحجة، وبالخصوص في موضوع كهذا الذي يعني الخطاب فيه كافة المثقفين العرب، والدعوة دعوة تصحيح لا مجرد دعوة، ولذا ينبغي أن تكون بأسلوب أصح، و عليه نرى أن الكلمة المناسبة في مثل هذا السياق هي كلمة (استعمال) بدل (استخدام)، وهذا زعم ينبغي الدفاع عنه بما يليق من الحجج والبراهين حتى يصح ويثبت، ولأجل إثبات ما ندعيه بخصوص توظيف كلمة (استعمال) بدل (استخدام) نرى أن الأمر يقتضي المقارنة بين دلالة الكلمتين المشار إليهما من حيثيات ثلاثة، ثم مدى عدد ورود كل منهما في أعلى متى اللغة العربية ا لذي هو القرآن الكريم إن وردتا معا أو عدم ورودهما معا أو إحداهما فقط، وهذه الحيثيات هي :

أ- استعراض بعض أمثلة أُسْرة كل واحدة منهما لضبط مجال دلالتها العامة، اعتماداً على اشتراكها في الحرفين الأول والثاني، واختلافها في الحرف الثالث فقط مثل فعل قطع، لو فصلنا  عنه الحرفين الأولين وأضفنا إليهما حروفا أخرى مناسبة لتأليف كلمات أخرى مشاركة لها من حيث دلالتها في مجال معين مثل قط+ع أو+ف، أو+ر، أو +ط، أو+ن، ستعطينا الكلمات التالية : قطع أو قطف، أو قطر، أو قطط، أو قطن…الخ

ولو بحثنا  عن دلالات هذه الكلمات وما يماثلها في اتحاد الحرفين الأولين لوجدنا بينها علاقة دلالية مّا. مما يجعلها أسرة واحدة تنتمي إلى مجال دلالي معين، غالبا.

ب- ضبط دلالة كل واحدة منهما مجردة باعتماد أصلها الثلاثي مع تحديد الباب الذي تصنف فيه باعتبار النطق الذي سمعت به عربيا، ذلك أن علماء التصريف استقصوا الأفعال الثلاثية في اللغة العربية فوجدوها ستة أنواع (أوزان) ثم رمزوا لكل وزن بفعل مشهور في استعماله معروف عند المتكلمين باللغة العربية سموه باباً، وهذه الأفعال المعنية بهذا الحديث هي : نَصَر، وضَرَبَ، وفتَحَ، وفَرِح، وكرُم، وحسِبَ. وعليه فكل فعل نطقت به العرب على منوال أي فعل من هذه الأفعال، يقال إنه من بابه، ففعل كتب مثلا يقال فيه إنه من باب نَصَر لأنهما معا على وزن فعَلَ يفعُل فتقول مثلا نَصَر ينْصُرُ وكتب يكتُبُ، وفعل جَلَسَ من باب ضرب لأن كل واحد منها على وزن فعَل بفتح الفاء والعين في الماضي ويفْعِل بكسر العين في المضارع. فتقول مثلا ضَرَب يضْرِب وجَلَس يجلِس.. وهكذا بقية الأفعال، وليس هذا التصنيف عبثا بل لكُلّ باب مجاله!

حـ- ملاحظة دلالة أمثلة الكلمتين (استخدم، واستعمل) باعتبار الصيغة التصريفية المشتركة بينهما في هذا السياق وهي صيغة (استفعل) أ”و بعبارة أخرى المقارنة بين الأمثلة  المصوغة من المادتين (خدم) و(عمل) على وزن (استفعل).

د- وأخيراً ملاحظة عدد ورود الكلمتين في القرآن الكريم إن وردتا معا، أو إحداهما فقط، وبناء على هذه الضوابط نناقش دلالة الكلمتين (خدم + عمل) كما يلي :

> أولا : استخدم ووظائفها الدلالية مجردة ومزيدة مع الاقتصار في دلالة صياغتها المزيدة على صيغة (استفعل).

1- دلالة الأصل المجرد : (خَدَم) يقول ابن فارس(1) ((الخاء، والدال، والميم، أصلٌ واحد منقاسٌ، وهو إطافه الشيء بالشيء، فالخدم الخلاخيل، الواحد خَدمة… ومن هذا الباب الخِدْمة. ومنه اشتقاق (الخادم)، لأن الخادم يطيف بمخدومه.)).

2- دلالة الكلمة (خدم) ضمن أسرتها :

(2)((خد+م، أو+ج، أو+د، أو+ش، أو+ع، أو+ب أو+ل، أو+ن، وينتج عن زيادة الحرف الثالث للأصل (خد) : خدم، أو خدج، أو خدد، أوخدش، أو خدع، أوخدل، أو خدن، أو خدب..)) ودون بذل مجهود فكري كبير، يلاحظ أن هذه الكلمات  تجمع بينها الدلالة على الضَّعة إلا ما شذ منها مثل خدب! وهذا المعنى يتناسب مع دلالة الأصل (خدم) الذي اشتق منه الخادم! ولا نعني (بالضعة) الاحتقار وإنما هي من (3)((وضُع الرجلٍ بالضمّ يوْضع ضَعةً بفتح الضاد وكسرها أي صار وضيعاً)). وقد تعنى الدناءة : قال (4)((والوضيع)). والوضيع : الدنيء من الناس، وقد وضُع الرجل بالضم يوْضُع (ضَعَةً) بفتح الضاء وكسرها أي صار وضيعا، ويقال في حسبة ضَعة وضِعة (ضَِعة) بفتح الضاء أو كسرها)).

3- باب فِعْل خدم الذي يصنف فيه : يقول ابن منظور : (5)((ابن سيدة : خدمه يخدُمُه ويخدِمه، الكسر عن اللحياني، خدْمة عنه، وخِدمة مهَنه، وقد خدم نفسه يخدُمُها  ويخدِمُها كذلك)).

والملاحظ بخصوص هذا الفعل أن وزن الأصل فيه هو خَدَم بفتح الخاء والدال على وزن فعل بفتح الفاء والعين، لكن مُضارعه هو يخدُم بضم الدال أولا، ثم يخدِم بكسرها ثانيا على وزن يفْعُِل بضم العين أو كسرها، وعليه يصنف هذا الفعل (خدم) في بابي نَصَر أولا، وضرب ثا نيا، لأن خدم يخدُم مثل نصر ينصُر، وخَدَم يخدِم مثل ضرب يضرب، وعليه نحتفظ بهذه الصيغة التي جاء عليها فعل خدَم ماضياً ومضارعاً لنقارنها بصيغة (عمل).

> ثانياً : استعمل ووظائفها الدلالية مجردة ومزيدة (على وزن استفعل) :

1- دلالة الأصل المجرد (عمل) يقول ابن فارس : (6)((العين والميم واللام أصل واحد صحيح، وهو عام في كل فعل يُفعَل، قال الخليل : عمِل بعمل عملاً فهو عامل)).

2- دلالة الكلمة (عمل) ضمن أسرتها :

(7)((عمـ+ل، أو+ج، أو+د، أو+ر، أو+س، أو+ش، أو+ق، أو+ك، أو+ن… وينتج عن زيادة الحرف الثالث على هذا الثنائي الكلمات التالية :

عمل، أو عمج، أو عمد، أو عمر، أو عمس، أو عمش، أو عمق، أو عمّ، أو عمن)) والملاحظ أن دلالة أغلب هذه الكلمات تمت إلى الشرف والرفعة بصلة ما، وهذا يتناسب مع دلالة الأصل الذي اشتق منه اسم الفاعل (عامل).

3- باب فعل عمل الذي يصنف فيه يقول ابن منظور : (8)((عمل فلان العمل يعمله عملا فهو عامل، قال : ولم يجىء فَعِلت أفْعَل فعَلاً متعديا إلا في هذا الحرف (ويعني بالحرف هنا الكلمة) وفي قولهم هبِلته أمّه هَبلاً، وإلا فسائر الكلام يجيء على فَعْل ساكن العين كقولهم سِرطت اللقمة سرْطاً، وبلعته بلْعاً وما أشبه)).

والملاحظ أن عمل بكسر الميم على وزن فَعِل بكسر العين، ومضارعه يعمل بفتح الميم على وزن يفْعَل بفتح العين، وعليه يصنف هذا الفعل في باب فَرِح يفْرح، وكل فعل نطقت به العرب على هذا الوزن يقال فيه : إنه من باب فرح، والغالب فيه أن يكون لازماً. بمعنى أن يُسْند إلى الفاعل ويتم المعنى، ولا يحتاج إلى المفعول به مثل : فرح، وسعِد وتعِب، وسغِب، وسقِم، وسلِس…

> ثالثا : أمثلة الكلمتين في الصيغة المشتركة (استفعل)

أ- استخدم : يقول ابن منظور : (((10)((واستخدمَه فأخدمه : استوهبه خادما، فوهبه له، ويقال : استخدمت فلانا، واستخدمته : أي سألته أن يخدمني)).

ب- استعمل : يقول ابن منظور : (9)((استعمل فلان  غيره سأله أن يعمل له واستعمله : طلب إليه العمل)).

مما سبق : نلخص الفروق الموجودة بين الفعلين (خدم، وعمل) مجردين ومزيدين :

أ- من حيث المعنى : خدم إطافه الشيء بالشيء وهو فعل خاص، في حين أن عمِل : عام في كل فعل يفعل، واسم الفاعل من خدم هو خادم في حين أن اسم الفاعل من عمل هو عامل، وشتان الفرق بين الخادم والعامل من حيث المعنى، ذلك أن كل واحد منهما يمت بصلة دلالية إلى أسرته، وهذا يلاحظ حتى في الصيغة المزيدة.

ب- من حيث تحديد مجال الحدث : خدم فعل خاص يدل على شيء معين ((استخدمه كأخدمه : استوهبه خادما فهو هبة له)) في حين أن (عمل) فعل عام (في كل فعل يفعل) قال تعالى : {ولكل درجات مما عملوا، وما ربك بغافل عما يعملون}(الأنعام : 132).. ولاشك أن توفر الحسنات لا يميز فيه ما بين الأقوال والأفعال، وهذا ما يؤكد أن فعل (عمل) عام في كل ما يصدر عن الانسان.

حـ- فعل (خدم) لم يرد في القرآن الكريم حسب علمنا في حين أن فعل عمل وارد بكثرة وبصيغ متنوعة منها الماضي والمضارع والأمر واسم الفاعل والمصدر.

وثمة حيثيات أخرى يمكن أن نقارن فيها بين الفعلين لا يتسع لها المجال. وعليه يمكن القول بأن كل واحد من هذين الفعلين (خدم، وعمل) مجردين أم مزيدين له مجاله الخاص، وأن وضع أحدهما مكان الآخر يعتبر إخلالا كبيرا بنظام اللغة العربية. والله أعلم.

د. الـحـسـيـن گـنـوان

——

1- معجم مقاييس اللغة لان فارس ج2 مادة خدم.

2- مثل هذه التصنيف واضح في م عاجم اللغة العربية بصفة عامة.

3- أساس البلاغة مادة وضع.

4- مختار الصحاح مادة وضع.

5- لسان ال عرب ج 12 مادة خدم.

6- معجم مقاييس اللغة ج4 مادة عمل.

7- تجمع هذه الأفعال وما يشبهها من المعاجم كما سبق في رقم 2.

8- لسان العرب لابن منظور ج 11 مادة عمل.

9- المرجع السابق ج 12 مادة خدم.

10- المرجع السابق ج 11 مادة عمل.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>