من شروط تولي مناصب تدبير الشأن العام من خلال قوله تعالى: {قال اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم}


هذه الآية الكريمة وردت في سورة يوسف في سياق حديث الله عز وجل عن مرحلة ما بعد ابتلاء وتمحيص يوسف عليه السلام، وثباته في تلك المحطات التي سبقت تحمله مسؤولية خزائن مصر. فمن كيد إخوته له وإلقائه في البئر، إلى فتنة امرأة العزيز، إلى فتنة السجن، حيث ثبت صدقه وعلمه. إذ شهد بصدقه وأمانته من رافقوه في السجن {يوسف أيها الصديق أفتنا}(يوسف : 46)، كما شهدوا بإحسانه{إنا نراك من المحسنين}(يوسف : 36)، كذلك أشهدت على  صدقه امرأة العزيز بعد أن حصحص الحق : {أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} (يوسف : 51).

هي شهادات اجتمعت في  يوسف \ وأهلته لطلب المسؤولية على  خزائن مصر من عزيز مصر:{قال اجعلني على  خزائن الارض إني حفيظ عليم}(يوسف : 55).

 أولا : المعنى الإجمالي للآية :

المعنى الذي تشير إليه الآية الكريمة : “اجعلني صاحب السلطة العامة في التموين ووسائله في أرض مملكتك كلها بمصر، حيث وصف يوسف عليه السلام نفسه بصفتين تؤهلانه لهذا المنصب، هما : الحفظ والعلم، حيث قال له : “إني حفيظ عليم” أي : حفيظ للأقوات، عليم بأسباب تهيئتها وحمل الشعب على  اتخاذ ما يلزم لزراعتها، وحصادها وجمعها بسنابلها، وتخزينها تخزينا مصونا، وعليم بتوزيع الأقوات على الشعب في سنوات الجدب والقحط بمقادير حكيمة، يجري فيها توزيع المخزون بأثمانه”(1).

ثانيا : بيان معاني ألفاظ الآية :

هناك ثلاثة ألفاظ أساسية في الآية يمكن الوقوف عليها :

- الجعل : أو اجعلني هو فعل يعني تقدير أو إنتاج أو إضفاء هيئة معينة على الشيء، ومن ثم تعريفها بحسب سياق الآية : الإقامة على الشيء والإشراف عليه.

- حفيظ : أي كثير الحفظ، حيث صيغة “فعيل” من صيغ المبالغة والتكثير.

- عليم : أي كثير العلم المؤهل للقيام بهذه المسؤولية الجسيمة.

 ثالثا : الحفظ والعلم وأمانة التكليف :

إن جسامة المسؤولية العامة، وصعوبة التكاليف المنوطة بالمسؤول تقتضي توفر شروط خاصة، لمهمة خاصة، حددتها الآية الكريمة التي نحن بصددها، في شرطين : شرط الحفظ أو الأمانة، وشرط العلم أو الكفاءة.

> 1- الحفظ : أو الأمانة، وقد تحدث القرآن الكريم عن الأمانة في أكثر من  موضع وبمعان مختلفة منها قوله تعالى : {إنا عرضنا الامانة على  السماوات والارض والجبال فأبين أن يحملنها}(الأحزاب : 72).

كذلك قوله عز وجل : {إن الله يامركم أن تودوا الامانات إلى  أهلها}(النساء : 58) كما أن الأمانة هي من صفات الملائكة والمرسلين حيث يقول الله عز وجل : {نزل به الروح الامين على  قلبك لتكون من المنذرين}(الشعراء 194). وقوله عز من قائل : {إذ قال لهم شعيب ألا تتقون إني لكم رسول امين)(الشعراء : 178).

وعموما فإن لفظ الأمانة ورد في عشرة مواضع في القرآن الكريم، وجاء على ثلاث معان :

> أولاها : الفرائض والواجبات حيث قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}(الأنفال : 27).

> وثانيها : الوديعة، حيث قوله تعالى : {والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون}(المؤمنون : 8).

> وثالثها : الثقة والعفة والصدق، حيث قوله تعالى : {إن خير من استاجرت القوي الامين}(القصص : 26).

وعلى هذا، فإن الحفظ أو الأمانة كمفهوم وكصفة شرط لازم لكل من تولى مسؤولية عامة، أو تكليفا يخص شأنا من شؤون الأمة.

غير أن هذا الشرط لا يكفي، إذ لا بد أن تقترن الأمانة بالعلم والكفاءة، لأن مفهوم الأمانة يتجه إلى العفة والثقة والصدق، وهي أخلاق مطلوبة ولا شك، لكنها لا تعني دائما النجاح والتوفيق والقدرة على  سياسة الشؤون العامة، لذلك فالآية الكريمة واضحة في الربط بين شرطي الحفظ والعلم، إذ لا مجال للفصل بينهما، ولا الاقتصار على أحدهما.

> 2- العلم : لا يستقيم عمل ما دون أن يسبقه علم، إذ لا يمكن تصور إناطة أمانة التكليف العام، دون أن يكون المكلف عالما بطبيعة التكليف، وإن كان أمينا وصادقا وعفيفا، لأن المسؤولية تتطلب مع الصدق والأمانة العلم والكفاءة.

وبالرغم من أن المسؤولية لها مجالات متعددة، فإن الآية الكريمة التي بين أيدينا تتناول مجال المسؤولية العامة داخل الأمة، أو ما يسمى في التعبير الحديث : تسيير الشأن العام.

بحيث لا يمكن -مثلا- لغير الخبير في الطب أن يدير شؤون الصحة، كما لا يمكن لغير الخبير في شؤون التربية والتعليم أن يتولى إدارة التعليم، وكذلك الشأن بالنسبة للاقتصاد والصناعة والتجارة والإعلام وغيرها من المجالات العامة التي تخص المجتمع.

على أن العلم من حيث هو شرط من شروط القوة اللازمة لتحمل المسؤولية، يحتاج إلى تطوير، وحسن تأطير لأنه “لا يجوز لأحد أن يضع الحلول والمناهج مغفلا مكان أمته ومركزها، بل يجب عليه أن تنسجم أفكاره وعواطفه وأقواله وخطواته مع ما تقتضيه المرحلة التي فيها أمته”(2).

فالأمة اليوم في أمس الحاجة إلى  العلماء الأقوياء في مختلف التخصصات والمجالات، حتى تحقق النهوض المنشود، والريادة الحضارية المأمولة.

وهنا يبرز دور المربين والخبراء في توجيه الطاقات، وتأطير الكفاءات وصناعة رجال المستقبل ذوي الكفاءة العالية، والأخلاق المحصنة ضد أي زيغ أو افتتان.

هذا مع أن العلم يصون الفرد المسؤول من أي تجاوز لحدود مسؤوليته، أو انتهاك حرمة الأمانات المنوطة به، وذلك لقوله تعالى : {إنما يخشى الله من عباده العلماء}(فاطر: 28)

غير أن القدرة العلمية، والكفاءة المتعلقة بمجال التسيير، لا تعفي المسؤول من الأخذ بمبدأ الشورى لأن “القرارات والتكاليف والتدابير التي تنبثق عن تشاور وتراض، وتكون على قدر كبير من التوازن والموضوعية، يتلقاها الناس عادة بالحماس والرغبة في تنفيذها وإنجاحها وتحمل متطلباتها”(3).

وخلاصة القول في هذه الآية الكريمة، أنها تحدد إطارا عاما لطبيعة المسؤولية العامة، من جهة، وطبيعة الصفات والمؤهلات الواجب توفرها لدى القائم على  تلك المسؤولية، وبالتعبير القرآني أن يكون حفيظا عليما.

ويوسف عليه السلام نموذج المسؤول المتوكل على ربه، الدائم الارتباط بخالقه، إذ لا يزال يردد وهو في منصب المسؤولية : {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تاويل الاحاديث، فاطر السماوات والارض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين} (يوسف 101).

عبد الرحمان الغربي

———

1- الميداني – معارج التفكر ودقائق التدبر ج 10ص 690.

2-  مالك بن نبي – شروط النهضة ص 53.

3- أحمد الريسوني – الشورى في معركة البناء ص 46.

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>