ثورات الربيع والقوى الإقليمية


انطلقت ثورات الربيع العربي وقد أذهلت الجميع في قوتها وعفويتها وفي قوة نجاحها في اقتلاع أنظمة عريقة وثابتة، وكسر تحالفات دولية وإقليمية، وفي قوة تأثيرها في نقل العدوى والتجربة بطريقة سريعة من تونس إلى مصر إلى ليبيا واليمن والبحرين وسوريا. وفي بقية البلدان العربية الأخرى يتفاوت تأثير هذه الثورات -وإن كان لا يزال ضعيفا- لأسباب عديدة ليس هذا مجال مناقشتها.

المهم أن ثورات الربيع العربي كان لها تأثيرها الواضح محليا وإقليميا ودوليا. وسنركز هنا على بعض التأثيرات الملحوظة لهذه الثورات في المحيط الإقليمي وفي صراع مصالح القوى الإقليمية تغييرا لتحالفات قديمة أو إنشاء لتحالفات أخرى جديدة.

أولا- على مستوى الكيان الصهيوني:

يعتبر الكيان الصهيوني في المنطقة أكبر قوة إقليمية في المنطقة العربية بحكم ما تملكه من قوةعسكرية وأمنية واقتصادية وبحكم ما تملكه من الدعم الدولي الأمريكي والغربي بشكل عام وبسبب هيمنة اللوبي اليهودي على الاقتصاد والسياسة العالمية وقدرته على التحكم في صناعة القرار الدولي.

وقد ظلت الكيان الصهيوني الربيب المدلل للولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا.. وظلت السيف المصلت على رقاب الشعوب العربية وأنظمتها، كما ظلت كل التغيرات في المنطقة العربية سابقا مشدودة بضابط الأمن الإقليمي لالكيان الصهيوني.

غير أن نجاح ثورات الربيع العربي في اقتلاع رؤوس أنظمة عربية عريقة في تحالفها الاستراتيجي مع الكيان الصهيوني (مصر وتونس وليبيا) وما أفرزته هذه الثورات من إمكان صعود قوى سياسية في المنطقة متباينة في توجهاتها ومصالحها ويصعب الالتقاء معها سواء دول الجوار (مصر، الأردن، سوريا..) أو غيرها من الدول البعيدة من الجوار لكنها تدخل في المحيط الإقليمي للكيان الصهيونيي كالسودان واليمن ودول شمال إفريقيا والعراق وإيران.

ويتخوف الكيان الصهيوني أكثر من أن تقود الثورات العربية إلى إسقاط هيبة الدولة وصعود دور سلطة الشعب والمجتمع المدني التي تتعاطف كثيرا مع الشعب الفلسطيني والتي ظلت الأنظمة السابقة حارسا بالنيابة عن الكيان الصهيوني في قمعها وترويضها، كما أن مستقبل الكيان الصهيوني رهين بنوع القوى الصاعدة وتوجهاتها الاستراتيجية ونوع تحالفاتها، كما يخشى الكيان الصهيوني من انتقال تأثيرات الربيع العربي إلى الأراضي الفلسطينية (التي هي تحت الاحتلال أو الحصار)، وإمكان إحداث تأثيرات على توجهاته وأمنه القومي.

ولعل أهم تأثير إيجابي علي القضية الفلسطينية وهو في غير صالح الكيان الصهيوني هو بداية تكسير الحصار على غزة وخروج السيد إسماعيل هنية رئيس الحكومة الفلسطينية المنقلب على شرعيتها قبل الربيع العربي، إلى جانب هذا يتوجس الكيان الصهيوني من انهيار تحالفاتهالسابقة مع مصر وسوريا والأردن وتركيا، إذ ينتظر كما يلوح الآن أن تغير هذه البلدان موقفها من الكيان الصهيوني وهمجيته، وتقف إلى جانب الشعب الفلسطيني (موقف تركيا حاليا وحركة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا والأردن)

ولذلك فالكيان الصهيوني لا يخفي قلقه من التغيرات في المنطقة العربية، ولا يخفي إمكان تدخله بنفسه أو عبر حلفائه المحليين والدوليين في الحفاظ على مصالحه ومعاكسة التغيير في بعض البلدان ( مصر سوريا الأردن واليمن).

 ثانيا- على مستوى إيران :

تعتبر إيران قوة إقليمية في منطقة الشرق الأوسط اقتصاديا وعسكريا وعقديا، وهذه الخصوصيات وغيرها هي التي أهلت إيران للقيام بدور إقليمي بارز مارست من خلاله تأثيرها في محيطها الإقليمي شرقا (أفغانستان)، وشمالا (الجمهوريات الإسلامية التابعة لروسيا الحالية)، وغربا (العراق (شيعة العراق)، سوريا (التحالف الاسترتيجي مع النظام النصيري الحاكم)، لبنان (حزب الله)، دول الخليج (دعم الأقليات الشيعية وتصدير الثورة)، اليمن (جماعة الحوثي)).

وبعد نجاح بعض الثورات العربية وإفرازها لمعادلات جديدة (التوجهات السنية والسلفية) بدأت إيران تنظر بعين الريبة والشك خوفا من انفلات زمام الأمور في غير صالحها، ولذلك تحاول إيران الإلقاء بثقلها الكبير في الأزمة السورية وممارسة كافة الضغوط والمساعدات بكافة أشكالها للحيلولة دون سقوط النظام السوري القاعدة الخلفية والقوية لإيران في المنطقة والذي يهدد سقوطه ببعثرة أوراق إيران في العراق ولبنان وسوريا وغيرها من المناطق، وربما يهدد بانهيار النظام الإيراني وانهيار كل ما بناه خلال العقود السابقة.

ومما يزيد الوضع الإيراني صعوبة هو تصدع التحالف التركي الإيراني السوري بسب تباين الموقف التركي الإيراني وتناقضه بخصوص الأزمة السورية وبسب صعود نجم تركيا وتغلغل سياستها في المنطقة العربية وترحيب الشعوب بالمواقف التركية وتقبل الأنظمة العربية للتعامل مع تركيا بحرج أقل من الحرج بل والرفض الذي تقابل به السياسة الإيرانية في المنطقة سواء من قبل الأنظمة والشعوب على حد سواء، لأسباب عديدة عقدية وسياسية تقوم على التهديد الإيراني لسياسات دول المنطقة وأمنها واستقرارها (التسلح النووي)، دعم الحركات الشيعية ماديا ومعنويا (العراق، لبنان، اليمن، البحرين، الكويت، المملكة العربية السعودية).

وقد تميزت المواقف الإيرانية من التغيرات العربية بالتوجس والترقب والتدخل المباشر أحيانا وبالمناورة والضبابية أحيانا أخرى.

ثالثا- على مستوى تركيا:

أصبحت تركيا في عهد حكومة حزب العدالة ذات حضور قوي وفاعل في محيطها العربي والإسلامي وازداد توسع اهتمام تركيا بالجوار العربي وبقضاياه واضحا ودخلت تركيا في تحالفات مع قوى إقليمية عربية إسلامية (إيران، دول المؤتمر الإسلامي، الصومال، وعربية (دول مجلس التعاون الخليجي، العراق، سوريا، لبنان مصر… )، كما دخلت تركيا على الخط المباشر في دعم المقاومة الفلسطينية، وكسر الحصار على غزة، وتجميد علاقاتها مع الكيان الصهيوني والتهديد بالتصعيد ضده في قضايا عديدة كانت محل نزاع بسبب التوجه الإسلامي لحكومة تركيا الحالية، كما دخلت تركيا على الخط المباشر في دعم الثورات العربية ودعوة الأنظمة العربية الحاكمة إلى الاستجابة لمطالب شعوبها في التغيير والإصلاح، كما لم تخف تركيا امتعاضها من التدخلات بالعنف في إخماد التظاهرات الشعبية (سوريا بالأساس، مصر واليمن)، والتدخل العسكري لحلف النيتو، واحتضان مؤتمرات المعارضة.

وأصبح التدخل التركي الناعم والمحسوب اقتصاديا وسياسيا يزداد تدريجيا ويزداد قبولا من الأوساط الشعبية العربية والإسلامية التي تحس بالظلم.

رابعا- على مستوى دول مجلس التعاون:

شكل تحالف دول الخليج ومحاولة توسيعه في لحظة اندلاع الثورات العربية بضم المغرب والأردن إيذانا بانزعاج دول هذا المجلس بما يمكن أن تحمله رياح الربيع العربي من تغييرات ليست في صالحها. ومن ثم حاولت معالجة عدد من القضايا الإقليمية، في البحرين واليمن، بطرق وأساليب متفاوتة، لم يُنظر إليها باطمئنان من قبل شعوب المنطقة، وخاصة في اليمن.

كما رفضت دول مجلس التعاون الخليجي محاكمة الرئيس المصري وعرضت المملكة العربية السعودية استضافة الرئيس المصري كما استضافت الرئيس التونسي واستضافت الرئيس اليمني للتطبيب والعلاج، واليوم تراقب دول المجلس الوضع في سوريا وفي اليمن وفي مصر وفي غيرها باهتمام بالغ وأشكال من التدخل الخفي والجلي معا.

خامسا- على مستوى مصر:

تعتبر مصر لاعبا إقليميا فاعلا وبارزا في مرحلة ما قبل الثورة، واليوم وبسبب الانشغال بأحداث الثورة وتداعياتها داخليا وخارجيا، يصعب التكهن بدورها الإقليمي حتى تنجلي نتائج الثورة وما تتمخض عنه من تغييرات داخلية وتأثيرات ونجاحات، غير أن التأثير الإقليمي للثورة المصرية ألقى بظلاله على المنطقة بأسرها، خاصة من قبل الدول الإقليمية المنافسة (الكيان الصهيوني، إيران، سوريا، تركيا، دول مجلس التعاون الخليجي، دول شمال إفريقيا..).

والخلاصة أن العلاقة بين الثورات العربية وسياسات الدول الإقليمية علاقة معقدة،  تأثيرا وتأثرا، وتفاعلا، وتزداد تعقيدا وتداخلا وتدخلا كلما تداخلت المصالح أو تقاطعت وتناقضت، ويتوقف نجاح كل طرف على درجة قوة التأثير وحسن إدارة المرحلة. ويصعب الحديث اليوم عن وجود استقلال للثورة بعيدا عن الحسابات المحلية أولا، والإقليمية ثانية، والدولية ثالثا.

د  . الطيب الوزاني

اترك تعليقا :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

يمكنك استخدام أكواد HTML والخصائص التالية: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <strike> <strong>